عبد المنعم أبو الفتوح والتأسيس الثاني للحركة الإسلامية في مصر
باحث في الحركات الاسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
الشخص والفكرة واللحظة التاريخية، هي ثلاثة عناصر تجعل من شهادة عبد المنعم أبو الفتوح على تأسيس الجماعات الإسلامية في السبعينيات من القرن الماضي واحدة من أهم الشهادات على مصر المعاصرة.
فلأنه عبد المنعم أبو الفتوح أبرز القيادات الطلابية الإسلامية في جيله، ولأنها حركة تأسيس الجماعات الإسلامية في الجامعات التي تمثل واحدة من أهم مراحل العمل الإسلامي الحركي في تاريخ مصر، ولأنه جيل السبعينيات أقوى أجيال الحركة الطلابية المصرية وأكثرها حيوية وما زالت -إلى اليوم- تضخ الدماء في حياتنا السياسية التي تنازع الحياة، لأجل هذا كله تبدو هذه الشهادة مفتاحا مهما لفهم مرحلة مهمة في تاريخ مصر ما زلنا نعيشها أو نعيش بعض آثارها وما تركته فينا من تغيرات بعضها يبدو جذريا لم يعد ممكنا تجاوزه؛ وأعني بها ظاهرة "الصحوة" الإسلامية التي تركت بصماتها على وجه مصر.
الشهادة وتاريخ الحركة
كان موضوع هذه الشهادة جزءا من اهتمام أوسع بتاريخ الحركة الإسلامية أو على الأخص المسكوت عنه فيه، كنت بدأت -قبل سنوات- البحث في التاريخ الحقيقي للحركة الإسلامية؛ تاريخ أتصوره يختلف عن التاريخ الرسمي أو شبه الرسمي الذي تروجه الحركة عن نفسها وفي أوساطها، ويختلف بالتأكيد عما يكتبه خصومها.
وعلى أهميتها كانت حقبة السبعينيات الأقل حضورا في المدون من تاريخ الحركة الإسلامية، بل بدا لي أن ثمة رغبة أو اتفاقا غير مكتوب على السكوت عنها، فأشخاصها ما زالوا على قيد الحياة وفي خضم الفعل السياسي والدعوي ولم يقرروا بعد الاعتزال، وقضاياها شائكة بحيث يفضل الجميع إيثار السلامة!.
وحين بدأت البحث كان لافتا أن أي حديث حول نشأة الجماعات الإسلامية في الجامعات والعمل الإسلامي عموما في هذه الفترة –السبعينيات- لابد أن يمر بعبد المنعم أبو الفتوح، وأن كثيرا ممن صاروا نجوما في الحركة الإسلامية، ربما بحكم الصعود السياسي وإجادة الظهور الإعلامي، وربما بحكم التعويل على النسيان أيضا، يشرقون ويغربون لكنهم ينتهون بالإقرار بمركزية دور أبو الفتوح في صناعة هذا التاريخ، فكانت محاولة التأريخ لهذه الفترة عبر شهادة الرجل الذي كان له الدور الأبرز في صناعة تاريخ هذه الحقبة ورسم معالمها.
بعد إقناع احتاج زمنا تعددت فيه لقاءاتنا (عبد المنعم أبو الفتوح وكاتب هذه السطور)، وامتدت على مدار عامين كنا نتذكر تاريخ حركة تأسيس الجماعات الإسلامية في الجامعات، ليس كأحداث ووقائع وإنما كعملية تَشَكُّلٍ تاريخي لهذه الحركة من واقع تجربة إنسانية للرجل يمكن بقدر مقصود من التعميم أن تنطبق على أبناء هذا الجيل "الفريد" في تاريخ الحركة الإسلامية والطلابية في مصر.
كان حديثا ممتدا حول قضايا ومحطات لا يحب الإسلاميون في العادة تذكرها أو التعريج عليها: البيئة التي خرج منها هذا الجيل الذي أدرك نهايات الحلم الناصري وعاشه زمنا قبل أن تصيبه فجيعة انكساره، بحيث غيرت الحلم والمسار من الاشتراكية إلى الإسلامية، وروافد التدين التي تعددت ما بين التقليدي والأزهري والصوفي والسلفي والإخواني، بحيث انتهت إلى نموذج خاص للتدين لم يكن صناعة تيار بعينه وظل محتفظا بخصوصيته حتى بعد أن انتمى للإخوان المسلمين، والصراعات المفتوحة بين التيارات التي كانت تموج بها الجامعة وقت أن كانت قلب الحياة السياسية، ومحاولات التوظيف في الصراع السياسي الأكبر بين السلطة ورموزها، والأسئلة التي سيطرت على عقل هذا الجيل بدءا من الفنون واللباس وحتى الثورة وإقامة الحكم، والمسارات التي كان على الحركة الناشئة أن تختار بينها؛ بين الإخوان والسلفية والجهادية، والأحداث الكبرى التي عاشتها مصر والعالم الإسلامي من الفتنة الطائفية إلى معاهدة السلام إلى الثورة الإيرانية واحتلال أفغانستان... حتى اغتيال رأس الدولة!.
إن شهادة عبد المنعم أبو الفتوح على قلة صفحاتها تصلح أن تكون تاريخا مختصرا للتيار العام في حركة الجماعات الإسلامية في السبعينيات منذ أن انطلقت من كلية طب القصر العيني بجامعة القاهرة ومنها لبقية الجامعات المصرية، حتى شملت كل مصر ومنها لبلاد الوطن العربي الأخرى.
شهادة صعبة
والحق أن عبد المنعم أبو الفتوح كان كعادته شجاعا؛ ليس فقط بصراحته المعهودة التي تظهر في شهادته فتجعلها بسيطة وعفوية، بل وإنسانية تقر بالخطأ والنقص والضعف الإنساني؛ بل كان شجاعا حين قبل أن يروي لي شهادته على حقبة وأحداث ما زال كل رموزها وفاعليها على قيد الحياة وما زال هو في قلب الحدث في صدارة أكبر جماعة إسلامية وأهم تنظيم معارض في البلاد.. وإن هذا -لو تعلمون- كثير؛ لأن أصعب ما تتحاشاه الحركة الإسلامية أن تدون تاريخها، وأصعب منه أن تكتبه على حياة أصحابه؛ فساعتها تظهر الضغائن وما تخفي الصدور، خاصة حين يجيب الشاهد على الأسئلة الحقيقية ويلتزم وجه الحقيقة لا ما يريده الآخرون!.
لقد كانت معاناة ليس فقط في أن يتذكر الرجل أحداثا ووقائع مضى عليها زمان، ولا أن يقول الحق دون أن يجرح زملاء وأصدقاء وإخوانا له ما زال بينهم، بل كانت في أن يتكلم الرجل عن نفسه.. وأشهد أنه يتحاشى ذكر نفسه في وقائع كبرى كان هو بطلها الأول وربما صانعها الوحيد.. وإنني كنت من يضطره للحديث عن نفسه بينما كان يصر على ذكر الوقائع والأحداث كما لو كان مجرد شاهد عليها وليس طرفا فيها.. وأنه لو تركت أبو الفتوح لنفسه ما قال كلمة واحدة فيها أنا!.
وأذكر كيف كان يغالب نفسه ما بين محبته لدعوته ولإخوانه وما بين حرصه على التزام الحقيقة وإعطاء كل ذي حق حقه خاصة فيما يتصل بالعلاقة بين الجماعة الإسلامية في الجامعات، وما بين قيادات الإخوان المسلمين.. وأذكر أنه انطلق مرة في الحديث على سجيته ثم أوقفته دموع وعبرات سرعان ما كتمها.. كانت المرة الأولى فيما أعرف التي يبكي فيها الرجل تأثرا.
وتأسيس جديد
تحت عنوان "شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر: من الجماعة الإسلامية إلى الإخوان المسلمين" تغطي شهادة عبد المنعم أبو الفتوح حقبة تمتد من 1970 وتتوقف عند 1984، إنها الفترة التي شهدت تأسيس الجماعات الإسلامية كحركة إسلامية مستقلة وعفوية ومتعددة الروافد والمشارب، حتى تمايزت إلى تيارات ثلاث اختار منها التيار الأوسع والأكثر تسييسا الانضمام للإخوان المسلمين، بينما تمايز على ضفتيه تيار دعوي (الدعوة السلفية) كان معقله الأكبر في الإسكندرية، وتيار آخر جهادي (الجماعة الإسلامية) كان معقله الصعيد.
وتمتد الشهادة لسنوات أخرى هي التي احتاجها التئام الجماعة الجديدة في جماعة الإخوان التي أعيد إحياؤها اعتمادا على هذا الكيان الجديد الذي كان أشبه ببيت مشيد سكنه الإخوان الخارجون من سجون الحقبة الناصرية.
والخلاصة الأساسية التي سينتهي إليها من يقرأ هذا التاريخ ويتأمله وهو أن حركة الجماعات الإسلامية في الجامعات في السبعينيات كانت تأسيسا جديدا ومختلفا للحركة الإسلامية في مصر، وأنه إذا كان هناك من يمكن أن ننسب إليه قيادة هذا التأسيس الجديد فهو عبد المنعم أبو الفتوح الذي أستطيع القول بقلب مطمئن إنه المؤسس الثاني للحركة الإسلامية بعد مؤسسها الأول الإمام الشيخ حسن البنا.
حركة ذاتية ومستقلة
لقد كانت حركة الجماعات الإسلامية في الجامعات المصرية حركة ذاتية مستقلة؛ فقد نشأ طلاب الجماعات الإسلامية بالجامعات نشأة دينية مستقلة تأثرت بروافد ورموز شرعية وفكرية مختلفة، ولم يكن لتيار بعينه أو جماعة بعينها التأثير الأوحد أو الغالب فيها حتى ولو كان الإخوان المسلمون الذين نجحوا لاحقا في إقناع القطاع الأكبر من حركة الجماعات الإسلامية بالالتحاق بهم.
لقد كانت التعددية الفكرية والشرعية ملمحا أساسيا في تشكل هذه الحركة بحيث يصح القول إن هذا الجيل مختلف عن سابقه من أجيال الحركة الإسلامية، وهو ما يعيد النظر في مقولة "النقاء" الإخواني التي يرددها الإخوان؛ فإذا كان الجيل الأول "بناويا" خالصا (نسبة للمؤسس الشيخ حسن البنا) فقد حمل جيل الستينيات وربما الخمسينيات أيضا تأثيرات قطبية (نسبة للأستاذ سيد قطب) جعلته مختلفا عن سابقه، بينما انفتح جيل السبعينيات على مؤثرات ومدارس فكرية وشرعية أكثر فكان أبعدها عن الفكرة الإخوانية النمطية.
وكانت حركة الجماعات الإسلامية ذاتية ومستقلة أيضا في إزاء الحالة السياسية السائدة في السبعينيات واستقطاباتها، نعم شهدت تسامحا بل وربما تشجيعا في بعض الأحيان من السلطة الساداتية؛ لكنها ظلت تعبيرا عن تحول جذري يصعب صناعته بقرار من السلطة، فالتيارات الجماهيرية يصعب صناعتها بقرار تماما كما يصعب استئصالها بقرار، وهو ما حدث فيما بعد.. فليس بقدرة السلطة اليوم أن تعيد اليسار أو تفسح لليبرالية وجودا في الشارع وبين الجماهير ما لم يتوفر الشرط التاريخي الذي لا يصدر بمرسوم منها، لقد كانت حركة الجماعات الإسلامية تلبية لأشواق وإجابة على سؤال الشباب في هذه المرحلة، وهي إجابة كانت تحمل من العفوية والبساطة الصدق الذي يفتح لها الطريق للناس والخفة التي تقع بها في أكثر الأخطاء حماقة كما جرى في تحول قطاع منها للعنف والانقلاب على الدولة والمجتمع.
جيل فريد ومختلف
ومن يتأمل هذا الجيل -السبعينيات- سيجد أنه مختلف في تكوينه ووعيه ومزاجه عن غيره أيا ما كان التيار الذي ينتمي إليه، وهو ما يصدق بحق جيل السبعينيات في الإخوان كما في اليسار والناصريين أيضا، ثمة سمات مشتركة تجعلنا نقول إن أبناء هذا الجيل لهم طابع خاص في الإخوان يميزهم عن غيرهم من الأجيال في جماعة امتازت عن غيرها بقدرتها على توريث الدعوة والتنظيم دون صراعات أو حتى خلافات بين الأجيال.
ورغم كل عمليات الصهر والتذويب والإحلال والتبديل التي تعرض لها جيل السبعينيات الذي أسس الجماعات الإسلامية بالجامعات بعد دخوله في جماعة الإخوان، ما زال بإمكاننا الحديث عن جيل السبعينيات في الإخوان وهو ما يصعب تكراره بحق أجيال أخرى ذابت بالجماعة ولم يعد ممكنا تعريفها جيليا!.
إنه الجيل الذي نشأ في لحظة نادرة من الحرية والوعي لم تتكرر كثيرا في تاريخ العمل الطلابي، لقد عرف أبناء هذا الجيل المعارك بل والحروب الأيديولوجية والسياسية، وشهد أكبر الاستقطابات وأشدها سخونة، لكنه ظل قادرا على العمل المشترك وتجاوز التمترسات في الخنادق التنظيمية والأيديولوجية، وحين تشكلت حركة عابرة للتيارات والتنظيمات السياسية مثل كفاية كان قوامها أبناء هذا الجيل من كل التيارات، فكان فيها عبد المنعم أبو الفتوح وعصام العريان، وكان فيها أحمد بهاء شعبان ومحمد السيد سعيد، وكان فيها حمدين صباحي وأمين إسكندر.. وكان فيها من التنوع السياسي والأيديولوجي في جيل السبعينيات ما لا نجده في غيره من الأجيال.
العودة للجماعة الوطنية
إن فرادة هذا الجيل عموما وتمثلاته الإسلامية بشكل خاص هي ما جعلت من عبد المنعم أبو الفتوح رمزا وطنيا يمكن أن يتفق معه ويجتمع عليه أبناء تيارات وحركات أيديولوجية وسياسية مختلفة، وهو ما كان واضحا في حالة التعاطف والتضامن العام معه بعد اعتقاله مؤخرا، وهو ما لا يتكرر كثيرا بحق رموز محترمة من الإخوان المسلمين نالهم ما ناله وأقسى، لكن مشاعر الرأي العام كانت لا تستطيع النظر إليهم بأبعد من كونهم "إخوان" وليسوا شخصيات إجماع وطني كعبد المنعم أبو الفتوح.
قد تبدو هذه المقارنة قاسية ومؤلمة على نفس مناضلي الإخوان الذين يعيشون رهائن محبسي السجن والتجاهل؛ لكنه يفتح الباب واسعا ليسأل الإخوان أنفسهم لماذا تحولوا إلى ما يشبه طائفة كبيرة وليس تيارا عاما وحاضنا في المجتمع المصري، وأحسب أن حالة أبو الفتوح يمكن أن تقدم بعضا من الإجابة.
إن عبد المنعم أبو الفتوح وهو يتحدث -مثلا- عن تأثره بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر وبكائه عليه يوم وفاته، يعلن أنه وأبناء جيله من حركة الجماعة الإسلامية في السبعينيات استمرار لتراث الحركة الوطنية المصرية وليس انقطاعا عنها، وأنه يمكن أن يتجاوز عن الخلاف ما دام أنه في إطار الانتماء للوطن ولم يخرج عنه، وأذكر آخر لقاء بيننا قبيل اعتقاله حين سألته عن رؤيته للصراع المحتدم داخل النظام فرد بحسم أنه إذا كان لابد من الاختيار فهو مع تيار الدولة داخل النظام حتى لو كانت نظرته للإخوان سلبية، وأنه يفضل مصر قوية مستقلة وصاحبة دور، يقودها وطنيون مخلصون لمصر وإن كانوا على خلاف مع الإخوان ولا يفضل التحالف البغيض بين المال والسلطة أو بين رجال الأعمال والذين استولوا على الدولة من خارجها ولو قدموا الوعود الطيبة للإخوان!.
إن عبد المنعم أبو الفتوح يعود بالحركة الإسلامية إلى صلب المشروع الوطني المصري بعد أن تعالت عليه حينا من الدهر، فكان حقا على الجماعة الوطنية أن تبادله الطيب بمثله.
فرج الله كرب عبد المنعم أبو الفتوح وفك محبسه، وأعاده سالما لأهله ومحبيه ولوطنه.