الإخوان والنظام ..هل تغيرت قواعد المواجهة؟
باحث مصري في الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
اضرب زوجتك كل يوم علقة فإن لم تكن تعرف لماذا فهي تعرف!..يصلح هذا المثل الصيني المعروف لتلخيص علاقة النظام المصري بجماعة الإخوان المسلمين. فإستراتيجية النظام تقوم علي توجيه ضربات جزئية مستمرة..وهو ما حافظ طوال عصر مبارك وخاصة منذ أوائل التسعينيات..وإذا كان قد جد شيء في الفترة الأخيرة فهي أن النظام يعرف بيقين لماذا عليه أن يعجل بالضربة ويجعلها قاسية!
ففي أيام معدودة وجهت السلطات المصرية ضربتين موجعتين للإخوان المسلمين، كانت الأولي باعتقال أكثر من مائة وثمانين طالبا من طلاب الجماعة في جامعة الأزهر إضافة إلي عدد من قادة الجماعة في مقدمتهم المهندس خيرت الشاطر النائب الثاني للمرشد والرجل الأقوى في الجماعة. ثم جاءت الضربة الثانية باعتقال عدد من رجال الأعمال المنتمين للجماعة وإغلاق عدد من دور النشر والمؤسسات الاقتصادية التي يديرونها ووجهت لهم اتهامات جديدة من نوعها كان منها اتهامات بغسيل الأموال لجماعة محظورة وهي المرة الأولي التي توجه للإخوان هذه التهمة.. وكان المشترك بين الضربتين أنهما يضربان في العصب الاقتصادي للجماعة ..وهو ما فتح باب التساؤل واسعا عما إذا كانت الجماعة مقبلة علي ضربة شاملة؟
علي الرغم من أن علاقة نظام الرئيس مبارك ظلت هادئة طوال السنوات الأولي من حكمه إلا أن المؤشرات الأولي كانت تقول أن هناك العلاقة الهادئة تحمل بداخلها بذور صدام لم يأت وقته بعد!..ورغم أن السنوات الأولي من حكم مبارك شهدت السماح للإخوان بالمشاركة في الانتخابات النقابية والبرلمانية، فسيطر الإخوان علي أكبر النقابات المهنية ( الأطباء والمهندسين ثم المحامين بالترتيب..) ونجحوا في الفوز بعدد من المقاعد في مجلس الشعب في دورتي 1984 ( فاز الإخوان بعدة مقاعد في تحالف مع حزب الوفد ) و1987 ( تضاعف عدد ما فاز الإخوان به من مقاعد ضمن التحالف الإسلامي مع حزبي العمل والأحرار ) إلا أنه كان واضحا أن سياسية النظام كانت ثابتة علي إستراتيجية منع الإخوان من أي شرعية قانونية والاكتفاء بمنحهم مساحة للعمل السياسي يمكن سحبها وإعادتهم إلي زاوية عدم قانونية في حال الحاجة لذلك. فقد بدأ الرئيس مبارك عهده باستثناء الإخوان المسلمين من الوفاق الذي أعلنه مع القوي والأحزاب السياسية حين استقبل كل قادتها في مقره بالقصر الجمهوري عدا مرشد الإخوان السيد عمر التلمساني!
في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات كان النظام يخوض حربا طاحنة ضد الجماعات الإسلامية التي تبنت خيار المواجهة والعنف وكان لافتا أن النظام حرص علي التهدئة مع الإخوان وفتح مساحة واسعة لهم للعمل العام في رسالة واضحة بأن حرب النظام إنما تتوجه ضد العمل المسلح والانقلاب علي الشرعية وليس ضد الدعوة الإسلامية أو العمل الإسلامي السياسي طالما ظل تحت سقف الشرعية والقانون..حتى أن رأس النظام- الرئيس مبارك- لم يجد غضاضة وقتها في الحديث إلي مجلة دير شبيجل الألمانية عن أن التيارات الإسلامية ليست كلها إرهابية وأن هناك إسلاميين معتدلين ويعملون وفق القانون في إشارة إلي الإخوان المسلمين.
تسامح النظام المصري في هذه الفترة مع الإخوان سعيا لتحييدهم وحصر المواجهات مع الجماعات الجهادية والمسلحة الخارجة عليه؛ لكن هذا التسامح ظل محصورا السماح بالوجود والعمل دون منحهم الشرعية القانونية..حيث ظلت الجماعة محظورة قانونيا علي الرغم من أن قوافل المسئولين والوزراء لم تكن تتوقف – كلما استدعت الأحداث- عن زيارة مرشد الجماعة وقادتها في مقرها بحي التوفيقية!
يؤرخ بقضية تنظيم سلسبيل التي تفجرت في نهاية عام 1992 كنهاية لحقبة سماح النظام للإخوان بالعمل والوجود دون منحهم الشرعية والقانونية وبداية لمرحلة المواجهة السافرة ومعارك كسر العظام ..فقد كشفت وثائق التنظيم التي عثرت عليها السلطات في إحدى شركات الحاسب الآلي المملوكة للقيادي الإخواني خيرت الشاطر ( اشتهرت باسم سلسبيل ) أن للجماعة تنظيما قويا ومحكما استطاعت بنائه في سنوات قليلة وهو يقترب من أن يشكل دولة موازية كما أن له إستراتيجية محكمة ( عرفت بمشروع التمكين ) للوصول إلي الحكم وإدارة الدولة.
كان " مشروع التمكين " أبرز ما انتهى إليه العقل الإداري للإخوان والذي اشتغل عليه أهم عقول وقيادات الجماعة من الصف الثاني والثالث ( جيلا السبعينيات والثمانينيات)، وهو مشروع يعيد تنظيم الجماعة إداريا ويرتب هياكلها ومؤسساتها المختلفة بطريقة بالغة الدقة، ويرسم لها خطوات محددة وممنهجة للسيطرة على جهاز الدولة وتولي السلطة سلميا.
لقد أفاق النظام علي حقيقة أن الإخوان نجحوا في بناء تنظيم قوي حديدي خارج القوانين المنظمة، وأنهم – منذ أن خرجوا من السجون- عكفوا في دأب ودقة متناهية يحسدون عليها على صقل كفاءة هذا التنظيم وتطوير قدراته، وصاغوه على مثال الدولة نفسها حتى في أدق تقسيماته الإدارية التي كانت تتفق حد التماهي مع التقسيمات الإدارية للدولة، فمكتب الإرشاد يوازي مجلس الوزراء، ومجلس الشوري يقوم بمهام البرلمان، ومكاتب الجماعة الإدارية هي نفسها المحافظات، والمناطق تنطبق حدودها مع الدوائر الإدارية و الانتخابية تماما، بحيث صار التنظيم دولة بإزاء الدولة إلا أنها من دون جيش أو أجهزة أمنية.
ساعة اكتشف النظام ذلك كان قد حسم أمره نهائيا إلي القطيعة مع الإخوان والبدء في مواجهة ولكن من نوع آخر: مواجهة تتمثل في ضربات جزئية متوالية ومستمرة من دون انقطاع تنهك الجماعة وتستنزفها دون أن تتحول إلي مواجهة مفتوحة علي الطريقة الناصرية التي قامت علي الاستئصال الجذري للإخوان ، فمثل هذه المواجهات مما لم تعد تقبله الأوضاع المحلية والإقليمية والدولية كما لا يستطيع النظام نفسه تحمل كلفته السياسية.
علي هذا الأساس صاغ النظام المصري استراتيجيته الجديدة في المواجهة مع جماعة الإخوان فبدء مرحلتها الأولي منذ عام 1993 بسن عدد من القوانين والتشريعات واتخذ مجموعة من الإجراءات الإدارية قلصت وجود الجماعة نهائيا في معظم النقابات المهنية والاتحادات الطلابية والمجالس المحلية، كما جمدت عددا من الجمعيات الأهلية التي تخضع لإدارتها واستعادت عبر وزارة الأوقاف السيطرة علي معظم المساجد- خاصة الكبري وذات النشاط – التي كانت الجماعة تعمل من خلالها. وبدءا من عام 1995 بدء النظام المرحلة الثانية في استراتيجية المواجهة والتي تقوم علي اتباع سياسة الاعتقالات الجزئية المستمرة والمتواصلة التي تطاول عددا من القيادات الحركية الفاعلة – غالبا من الصف الثاني والجيل الوسيط- لإحداث خلخلة في البنية التنظيمية للتأثير علي كفاءة أدائها، وكذلك لاستنزاف مواردها المالية التي يذهب جزء كبير منها في تحمل كلفة هذه الاعتقالات اقتصاديا واجتماعيا، إضافة إلي حصرها في خانة اللا مشروعية بما يباعد بينها وبين الشارع المصري.
لم يغير النظام من استراتيجيته تلك حتى حين سمح للجماعة بالدخول في الانتخابات البرلمانية الأخيرة ( 2005 ) والتي فازت فيها بنحو خمس مقاعد البرلمان؛ فقد خاضتها من دون وضعية قانونية، وظلت علي رغم نشاطاتها السياسة محظورة وغير قانونية ومعرضة للملاحقات الأمنية والقانونية علي نحو ما رأينا من اعتقالات وملاحقات لم تتوقف في حق كوادر الجماعة وقادتها طوال العام الفائت.
لكن الجديد الذي صعد المواجهة كان ما بدا من أن الجماعة لعبت بالأعصاب العارية للنظام بل وللدولة المصرية حين بدأت عبر تصريحات لقادتها وممارسات لكوادرها تتجاهل ميراث الدولة المصرية الذي يفيض حساسية تجاه كل ما من شأنه تجاوز فكرة الدولة وإدارتها.
حدث ذلك من الإخوان حين صدرت تصريحات "عشوائية" فهم منها عدم احترام الدولة أو الجرأة عليها ( مثل مقولة طز في مصر المنسوبة للمرشد! أو دعوته إلي رئيس ماليزي لمصر )، وحين خلطت الجماعة بين نقد النظام وبين ما يفهم أنه جرأة علي الدولة نفسها ( مقولة المرشد أيضا عن قدرة الجماعة علي تجهيز عشرة آلاف مقاتل أو استحقاق قادة الدول للعربية للقتل!)، ثم حين بدأت الجماعة سياسة تأسيس الكيانات الموازية لكيانات الدولة( مثل تشكيل اتحاد طلابي بديل ثم اتحاد عمال بديل عن الاتحادات الرسمية )..حينها قرر النظام وبحسم الضرب لأسباب يعلمها الإخوان أو غابت عن وعيهم لكنها بدت حاضرة وبقوة لدي النظام المصري الذي كان يضرب هذه المرة دفاعا عن كبريائه المجروحة!
الغد الاردنية