أمريكا في فخ القاعدة!
باحث مصري مختص في الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
من يتأمل ما جري طوال خمس سنوات تلت تفجيرات 11 سبتمبر الشهيرة من ردود أفعال غيرت وجه العالم لا يمكنه القول إلا أن القاعدة نجحت في الإيقاع بالولايات المتحدة في الفخ الذي نصبته لها قبل عشر سنوات أو يزيد!
تشرح عدد من وثائق القاعدة التي يرجع تاريخها إلي النصف الثاني من عقد التسعينيات إستراتيجية التنظيم ورؤيته في إدارة الصراع مع الولايات المتحدة، فيبدو لقارئها كما لو أن الأخيرة كانت تنفذ السيناريو الذي كتبه قادة القاعدة بالنص!
سنجد أوراقا " إستراتيجية" للقاعدة تتحدث عن ضرورة توجيه ضربة بالغة العنف لأمريكا في عقر دارها تفقدها رشدها وتمنعها من التعقل في الرد بحيث تتحول إلي ثور هائج يضرب في العالم بلا عقل!، وسنجد أوراقا أخري تقول أن علي التنظيم استدراج أمريكا إلي الدخول بنفسها في الصراع المباشر داخل العالم الإسلامي بدلا من الاكتفاء بإدارته عبر وكلائها بالمنطقة ( والوكلاء في نظر القاعدة هم إسرائيل والأنظمة العربية )، وأن يكون هذا التدخل في الصراع واسعا وكثيفا بحيث يصبح أقرب إلي "ورطة" لا تستطيع الخروج منها بسهولة!
سنجد كذلك في "إستراتيجية" القاعدة أن تتورط أمريكا في الصدام مع أكبر عدد ممكن من دول العالم الإسلامي والعالم عموما، وأن "تثخن" الجراح في المسلمين حتى تصير كراهيتها محققة في كل بلد ولا يبقي لها صديق أو نصير يمكن أن ينحاز إليها أو يدافع عنها علانية!
والحال أن ما خططت له القاعدة نفذته الإدارة الأمريكية "الحمقاء" وزادت عليه مما لم تكن تحلم به القاعدة، فقد تورطت أمريكا في " وحل " الصراع المباشر في أكثر من بلد وصارت لا تعرف طريقا للخروج منه كما هو الحال في العراق الذي كان من السهل علي أمريكا أن تأخذ قرار الحرب منفردة ثم صار من الصعب عليها إن لم يكن مستحيلا أن تأخذ قرار الانسحاب وحدها.
وتكاد تجمع كل استطلاعات الرأي علي أن هناك حالة إجماع علي كراهية أمريكا لم يسبق لها مثيل في العالم الإسلامي حتى في الدول التي تسيطر عليها أنظمة عرفت تقليديا بتحالفها مع أمريكا: مثل مصر والسعودية والأردن!
الأهم من ذلك أن القاعدة نجحت في أن تحول طاقات الغضب والسخط إلي حركة مقاومة واسعة ومرشحة للتوسع ضد المشروع الأمريكي، وأن تقدم نفسها عنوانا علي حركة مقاومة بطول العالم الإسلامي وعرضه حتى صارت أقرب إلي أيدلوجيا مقاومة للمشروع الأمريكي تتجاوز (في قوتها وقدرتها علي التأثير في تحشيد الشارع وتعبئته وعسكرة قطاعات واسعة منه ضد الولايات المتحدة) قدرة تنظيم محدود بعدد من الأفراد وبقيادة محاصرة في الكهوف والجبال كما هو وقع القاعدة.
وفي هذا السياق يجب التوقف عند ما أبدته القاعدة من قدرة فائقة علي إدارة معركة إعلامية متقدمة تفوقت فيها -رغم ضعف الإمكانات- علي القوة العظمي الوحيدة وصارت أكثر قبولا وتأثيرا من الإعلام المرتبط بأمريكا، كما أثبتت كوادرها كفاءة في التعامل مع الميديا ووسائطها المختلفة بما فيها الوسائط الأكثر حداثة ( كالانترنت ) وتوظيفها في المواجهة وهو ما أقر به وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد.
لقد أدي ذلك كله إلي أن تتسع القاعدة إلي أبعد من مجرد تنظيم مطارد، وتزداد كفاءتها ومجال عملها بأكثر من الطاقات والامكانات المتاحة لها..لتصبح اللافتة الأكبر لحركة مقاومة ضد المشروع الأمريكى..وتصبح راية تلتحق بها وتسعي اليها كوادر بل وتنظيمات إسلامية إقليمية محلية، كما حدث مؤخرا في التحاق بعض قادة الجماعة الإسلامية المصرية بها أو كما حدث في الجماعة السلفية للدعوة والجهاد في الجزائر..وغيرها..مما يجعلنا نقول أننا بإزاء حالة فرار إلي القاعدة!
الأكثر من ذلك أنها سحبت البساط من تحت جماعات أكبر منها وأكثر عراقة وانتشارا بل وصارت تدفع بها إلي تبني قضيتها- المواجهة مع أمريكا- ووضعها علي رأس أجندة عملها تجنبا لانفضاض الشارع عنها.
لقد خلقت القاعدة مزاجا ثوريا في الشارع العربي والإسلامي لم يعد بإمكان التيارات الإسلامية الأخرى " المعتدلة " إلا مجاراته أو التنويع علي نغماته وإلا صارت متهمة لدي جمهورها بل ولدي قواعدها التي دخلت في هذا المزاج الثوري..وحالة الإخوان المسلمين في الأردن شاهدة علي ذلك..فالمزاج القاعدي انتشر في الأردن- شأن بلاد أخري غيرها- وطال قيادات الحركة الإسلامية التي كانت تعرف تقليديا بالاعتدال حد الموالاة للنظام..وصار هناك فرز بين قادتها وحديث عن تيار قاعدي لا يمارس العنف ولكنه قريب في تفكيره ومزاجه من القاعدة..كما رأينا في نتائج الانتخابات الداخلية للحركة وفي عزاء عدد من قادتها في وفاة قائد القاعدة الأردني أبي مصعب الزرقاوى.
الظاهرة نفسها ستجدها في مصر وفي السعودية التي لن تستطيع وضع حدود فاصلة بين التيارات الإسلامية السلفية التي يتقاطع معظمها مع القاعدة في كثير من القضايا والمواقف خاصة التي تتعلق بالمقاومة.
دخول حزب الله مؤخرا علي خط المقاومة لن يؤثر كثيرا علي صدارة القاعدة للمشهد، إذ تظل القاعدة النموذج المتجاوز للخصوصية الشيعية وخصوصية الوضع اللبناني، والقابل للتعميم في العالم العربي والإسلامي ربما بسبب طبيعتها المعولمة.
ورغم ذلك تعاني القاعدة من أزمات بعضها بنيوي ستؤثر علي قدرتها في أن تظل في واجهة المشهد في الفترة القادمة، وقد تؤدي- علي مدي بعيد- إلي أفول نجمها وعدم قدرتها علي أن تتبوأ منفردة صدارة حركة المقاومة للمشروع الأمريكي في العالم العربي والإسلامي.
بعض هذه المشكلات تتعلق بمنهجها الذي لم يحسم إلي الآن بوضوح قضية حرمة دماء أبناء الأمة والأبرياء من المدنيين والمسالمين.فمازالت قضية التفجيرات العشوائية وعمليات الاغتيال التي تتبناها أو تنسب لها تقيم سورا عاليا بينها وبين أن تنفتح علي جمهور أكبر وأوسع.
وربما كان هذا أحد أهم الفروق بينها وبين حركات مقاومة أخري مثل حماس والجهاد في فلسطين وحزب الله في لبنان التي تلقي قبولا والتفافا من الجماهير العريضة في العالم العربي. فحماس والجهاد رفعا مبكرا شعار حرمة الدم الفلسطيني وأكدا علي احترامه والالتزام به، ومثلهما فعل حزب الله الذي لم يوجه سلاحه إلي فرقاء الوطن حتى من خارج ملته وطائفته.
فحسب بل وربما اتسعت إلي بلاد العالم الثالث مثل أمريكا اللاتينية التي تشهد حركة مقاومة وهذا عنصر تميز لهذه الحركات عن تنظيم القاعدة الذي مازالت قضية حرمة الدماء غائبة لديه بل وكثيرا ما أعلن بعض قادته عدم إيمانهم بها كما فعل أبو مصعب الزرقاوي الذي كان أكثر قادة القاعدة ولوغا في الدم..ما أضر بتنظيمه في العراق وخارجه.
الخلل الثاني يتعلق بالخطاب القاعدي الذي يبدو في كثير من تفصيلاته خارج التاريخ! فكثيرا ما يتحدث قادته - خاصة أسامة بن لادن- عن المواجهة مع الصليبية العالمية أو يشير آخرون إلي الشيعة الروافض كأعداء للأمة! فتغيب بوصلة "مقاومة أمريكا" ويدخل التنظيم معارك فرعية لا طائل من ورائها بل وكثيرا ما جرت عليه خسائر فادحة.
وربما كان هذا المشكل الأكبر الذي لم يستطع التنظيم تجاوزه، ولو فعل لنجح في أن يقدم نفسه كحركة مقاومة عالمية ضد أمريكا كان يمكن أن تمد جسورها ليس إلي مجمل العالم الإسلامي واسعة ضد الهيمنة الأمريكية.
وأتصور أن أيمن الظواهري- منظر القاعدة- أكثر وعيا من زعيمها أسامة بن لادن بهذا الإشكال وأكثر قدرة بحكم تكوينه وخبرته السياسية الواسعة علي التعامل معه، فهو في كل ظهور له يطور في خطاب القاعدة بما يشبه القفزة النوعية؛ فيتحدث مرة عن " أحرار العالم" وأخري عن " تحالف المستضعفين"..وهو دائما ما كان أقل قادة القاعدة دخولا في الجدل الطائفي مع الشيعة أو الملل والديانات الأخرى.
لكن تبقي مشكلة بنيوية تواجه القاعدة وستظل سببا في المأزق الذي تعيشه في الخطاب والمنهج وهي تتعلق بطبيعة التجنيد وتكوين عناصر التنظيم. فمازال الرافد السلفي الوهابي هو الرافد الأهم في مد التنظيم بعناصره وكوادره ومازال التمويل الوهابي، خاصة القادم من الجزيرة، هو الأكثر تدفقا وأهمية في عمل التنظيم، وهو ما سيزيد من مأزق التنظيم الذي سيظل لهذا السبب- أسيرا للعقل السلفي الوهابي الذي يعاني من مأزق اللا تاريخية وعدم القدرة علي التعامل مع تعقيد الواقع وتركيبيته وإنتاج خطاب سياسي دينامى مرن.كما سيظل أسيرا - فترة قد تطول- لمقولات العداء مع المسيحية الصليبية اليهودية العالمية والشيعة الروافض ..وغيرها من المقولات التي تجعل منه تنظيما طائفيا وتخسره الكثير من المتعاطفين بل ومن الأنصار المحتملين.