15 أيلول 2006
في أسلمة الديمقراطية!
باحث مصري في الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
كلما تأزمت حركة الإصلاح في عالمنا العربي عادت – وبإلحاح- قضية إدماج الإسلاميين في بنية النظام السياسي العربي إلي صدارة المشهد؛ باعتبارها خطوة لا غني عنها في عملية إعادة ترتيب البيت السياسي العربي من الداخل.
قبل عقد أو يزيد كانت الدعوة إلي إدماج الإسلاميين في نظام سياسي ديمقراطي أقرب للتغريد خارج سرب كادت طيوره تلتئم في الدعوة إلي المواجهة مع الإسلاميين وليس دمجهم في النظام السياسي، وهو ما تغير مؤخرا مع تصاعد انتصارات فصائل وقوي الإسلام السياسي في عدد من بلدان المنطقة العربية وحدوث ما يشبه التوافق أو الإجماع علي صعوبة- إن لم يكن استحالة- الحديث عن مستقبل الأنظمة السياسية العربية دونما الحديث عن وضع الإسلاميين- أكبر القوي السياسية- فيها.
حين بدأ الحديث يعلو في هذه القضية كان النقاش يدور – غالبا- حول إشكالية يمثلها سؤال يبدو- رغم تقليديته- استشراقيا بامتياز: هل يصلح الإسلاميون للدمج والاستيعاب داخل نظام ديمقراطي أم أن الجينات الإسلامية تحول دون ذلك؟.
لكن مع تحول وجود الإسلاميين إلي أمر واقع في الحياة السياسية تجاوز النقاش قضية المبدأ، وصار منصبا علي محاولة الإجابة علي عدد من الإشكالات تتعلق – بالأساس- بالمنهجية التي يمكن من خلالها مقاربة قضية دمج الإسلاميين في النظام السياسي..والتي يمكن أن يجمعها سؤال مركزي: في أي نظام يدمج الإسلاميون؟ وماذا يتبقي من "الإسلامية" بعد الدمج والدمقرطة؟.
في تغيرات "الإسلامية" و"الإسلاميين"
أول الإشكالات التي تلفت المتابع لجدل الإسلاميين والديمقراطية تلك التي تتعلق بتحرير المصطلحات والمفاهيم التي تدور عليها مقاربات الإشكالية: إسلاميون، إسلامية، ديمقراطية ، دمج ..حيث تبدو وكأنها محل اتفاق فتغيب تعريفات واضحة لهذه المفردات وهو ما تحتاجه قضية بالغة الأهمية كهذه ..فلا تكاد تجد في هذا الجدل تعريفات واضحة ومحددة لمصطلحات مركزية في القضية وعلي رأسها مصطلح " الإسلاميون" وما صدقاتها أو ما يندرج تحتها من أفراد وتيارات وهيئات وجماعات، وكذلك " الإسلامية " وما تحيل إليه من دلالات ومعان، خاصة حين تطرح بمقابل مصطلحات أخري مختلفة مثل "العلمانية" أو "المدنية" ..كما يغيب أيضا الوقوف علي التحولات التي طرأت في معاني ودلالات هذه المفردات في السنوات الأخيرة الماضية.
وتبدو قضية التعريف مهمة في ضوء ما جري- مثلا- من تغير لدلالات "الإسلامية" عبر مراحل تاريخية مختلفة فقبل خمسة عشر عاما أو يزيد كان الحديث عن "الإسلامية" يأتي دوما في إطار الرؤية الكلية أو الرواية الكبرى التي يطرحها الإسلاميون والتي تضم مجالا واسعا من المعاني والرموز والطقوس التي يتم فيها تسكين كل سكنات " الإسلامي" وحركاته، حيث لابد – بحسب إسلاميّ هذه الحقبة – أن تكون كل أفعاله وأقواله وحركاته وسكناته ضمن رؤية شاملة للكون والحياة تتجسد- عند الإخوان مثلا- في الخطوات الست التي حددها الإمام الشهيد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين(تبدأ من بناء الفرد فالأسرة المسلمة فالمجتمع المسلم فالدولة الإسلامية وتنتهي بإقامة الخلافة وأستاذية العالم).
ضمن هذه الرؤية الشاملة أو الرواية " الإسلامية " الكبرى كانت تنتظم حركة الإسلاميين بدءا من النضال السياسي حتى العمل الاجتماعي بل وشئون الحياة الخاصة..فلم يك مقبولا لدي الإسلامي أن يأتي من الأفعال ما لا يمكن أن يسكن في هذه الرواية الكبرى بما في ذلك شئونه الخاصة من التعليم والعمل إلي الحب والزواج!
غير أن مقاربة حديثة ل" الإسلاميين" و"الإسلامية" ربما تقول أن الواقع الحالي اختلف كثيرا عما كان عليه الحال قبل عقد ونصف أو عقدين من الزمن، وهو اختلاف يتصل بحركة التحولات التي طالت الظاهرة الإسلامية في العقد الأخير، وهو ما اشتغلت في عدد من الدراسات السوسيوسياسية يضمها كتابي – قيد الطبع- ( ما بعد الإسلام السياسي: إعادة تشكيل حركة الأسلمة في مصر).
من أهم ما يمكن التوقف عنده في تحولات الظاهرة الإسلامية أن معني "الإسلامية" تحول أو ضاق عما كان عليه زمن الرواية الكبرى فتقلص المجال التداولي لها لدي إسلاميي هذه اللحظة ليعني أنه كل ما هو مفيد وممتع ولكن غير محرم ..وأتصور أنه من المفيد تبني منظور اجتماعي أنثر بولوجي في دراسة هذه القضية – الإسلاميون والدمج في النظام الديمقراطي- وأنه لابد من تكامل المدخل الاجتماعي مع المداخل السياسية والثقافية في دراسة ماذا تعني الإسلامية.
ما قيل بشأن الإسلاميين والإسلامية يمكن أن يمتد كذلك إلي متعلقاتها من مفاهيم وأفكار وتصورات وعلي رأسها " الدولة " و" الدولة الإسلامية " ..فدائما ما كان هناك التباس لدي الإسلاميين في تصور مفهوم الدولة وهو التباس كان يجري فيه إسقاط المثال التاريخي- الدولة الأموية أو العباسية أو دولة بني فلان ..- علي مثال الدولة الحديثة دون وعي بمفهوم الدولة الحديثة التي هي أكثر تعقيدا مما يتصوره الإسلاميون خاصة في قضية المرجعية؛ فالدولة الحديثة مرجعية ذاتها ولها إطلاقية لم تكن للدولة في مرحلة ما قبل ظهور الدولة الحديثة..وهي أيضا دولة مطلقة في ذاتها تطرح اطلاقيتها في اتجاه الدين نفسه، ويؤرخ البعض بتأسيس الدولة الحديثة لعلمنة السياسة نفسها.
النظام والإسلاميون: من سيتغير ليستوعب الآخر؟
لا تتوقف المقاربات الداعية لبناء تيار إسلامي ديمقراطي كثيرا عند طبيعة وشكل النظام السياسي الذي يمكن أن يدمج فيه الإسلاميون..ويبدو من الاتجاه العام لهذه المقاربات – علي الأقل في أحدث ما صدر في هذا الشأن: كتاب "إسلاميون ديمقراطيون" الصادر عن مركز الأهرام بمصر - أنه يتبني فكرة الدمج الاستيعابي حيث لابد لدمج الإسلاميين أن يمر عبر بوابة النظم السياسية التي نعيش في ظلها والتي تتبني النموذج الديمقراطي الليبرالي العلماني- أيا كان تطبيقها واقعيا- وكأن العلمانية أصبحت شرطا للإدماج دونما أي إشارة إلي أفق جديد أو إمكانية لإعادة تأسيس نظام سياسي جديد ليس بالضرورة علي النموذج الديمقراطي الليبرالي الغربي.
المفارقة أن الحديث في قضية إدماج الإسلاميين ودمقرطتهم يناقش كيف يتغير الإسلاميون ليحلوا مندمجين في النظام السياسي القائم دونما أي حديث عن تغيرات يمكن أن تطال بنية النظام السياسي نفسه لكي يشهد ولادة تيار إسلامي ديمقراطي بداخله...ويبدو أنه في غالب المقاربات لا نجد حديثا واضحا عن الدولة أو النظام السياسي الذي نبحث في دمج الإسلاميين داخلها، ثم إن هناك غيابا للصيغة التي يمكن أن يحصل الإسلاميون من خلالها علي وضع سياسي قانوني داخل النظام السياسي.
أما ما يثير الدهشة فهو أن هذا التصور المتعسف للدمج كما تتبناه معظم المقاربات يلاقي إعجابا وتثمينا من التيار الإسلامي السياسي السلمي الذي ربما انحاز لفكرة الدمج أكثر من تقديره لمتطلبات هذا الدمج ومآلاته، فهو يرحب بإفساح مساحة قانونية للعمل السياسي دون النظر إلي الأرضية التي يجري عليها العمل نفسه أي النظام السياسي الذي سيدمجون فيه...وأتصور أن السبب في هذا الموقف المثير للدهشة هو البرجماتية المفرطة التي تسيطر علي هذا التيار والذي تجعله يفضل القفز علي الإشكالات النظرية والمنهجية تغليبا للمكاسب السياسية الآنية!
في بحثه ضمن كتاب (إسلاميون ديمقراطيون) يقارن عمرو الشوبكي بين التجربة التركية والتجربة المصرية في دمج الإسلاميين منحازا – بالطبع – إلي النموذج التركي..وفي معرض تفسيره لنجاح هذا النموذج في مقابل فشل التجربة في مصر يسرد عقبات مصرية حالت دون دمج الإسلاميين كان أهمها أن مصر لم تنجز التحول العلماني كاملا وهو ما يتمثل في استمرار الإطار الإسلامي للدولة المصرية ( المتمثل في النص الدستوري علي أن الإسلام دين الدولة وأن الشريعة مصدر التشريع )ووجود مؤسسة دينية فعالة ( الأزهر الشريف جامعا وجامعة ومؤسساته المختلفة) ثم تشبث إسلاميي مصر بفكرة "الإسلامية" التي يراها إحدى العقبات الأساسية في طريق الدمج الذي لن يتحقق- وفق هذا المنطق- إلا حين تنجز مصر التحول العلماني الكامل.
أتصور أن هذا الكلام يجعلنا في حاجة إلي إعادة تعريف " الإسلامية" وكذا "العلمانية" خشية أن يكون هناك نوع من سوء الفهم لما تعنيه العلمانية، فنحن أمام تعريف لها يميل إلي التمييز بين الديني والسياسي دون قطع مع الدين وتعريف آخر يقطع مع الدين ويمنع حضوره فيما هو دون الشخصي والتسمية الأكثر دقة هي " اللائكية " كما تشيع في المغرب العربي.
كما أننا سنجد أنفسنا بحاجة – أيضا – إلي استحضار التنظير الغربي في قضية العلاقة بين الدين والعلمانية خاصة في ظل الحضور الإسلامي الواسع في فضاء السياسة والعمل العام عموما والذي يمكن أن نلاحظ فيه وجود مقاربتين علي طرفي النقيض واحدة تتحدث عن ما بعد العلمانية أو نهاية الدولة العلمانية مستحضرة خبرة التجربة الأمريكية وتجارب أخري تصاعد فيها الدين في الحيز السياسي، ومقاربة أخري تتحدث عن تأكيد الحضور العلماني وأن الحضور الديني في السياسة يأتي دائما علي أرضية العلمانية وليس علي حسابها.
أيا كان موقفنا من قضية العلاقة بين الدين والدولة والعلمانية فنحن بإزاء قوة دينية إسلامية في العملية السياسية بحاجة إلي أن تقدم تعريفها للعلمانية بشكل يرسم حدود العلاقة بينها وبين "الإسلامية" خاصة في ضوء ما جري من تحولات تبدو مهمة في نظرة الإسلاميين للدولة المنشودة فبعد أن كان حديث الإسلاميين عن "الدولة الإسلامية" رأينا تغيرات مهمة صاروا معها- علي الأقل تيارات فاعلة منهم- يتحدثون عن "دولة المسلمين" ثم "الدولة الآذنة" بالإسلام ثم "الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية" ..وانتهاء بدولة مدنية ديمقراطية يطالب بها كثير من الإسلاميين بوضوح ومن دون لبس.
التوقف عند تصور الإسلاميين للدولة والنظام السياسي يبدو مهما في ضوء ما جري من تحولات في هذا التصور يجعله في - حالة ما يمكن أن نسميه بالتيار الديمقراطي داخل الحركة الإسلامية- أقرب ما يكون إلي طرح النموذج الديمقراطي الليبرالي بل وأحيانا النيوليبرالي! مع غياب لأي أفق جديد يعطي تمايزا للديمقراطيين الإسلاميين عن غيرهم..بل وغياب لأي استفادة من منجز غربي في هذا السياق- سياق التحول الديمقراطي- حتى فيما يتعلق بقضية العدل الاجتماعي.
التدقيق في رؤى التيار الإسلامي الديمقراطي سواء من خلال حزب العدالة والتنمية التركي أو مثيله المغربي أو لدي تيار الإخوان الديمقراطيين داخل جماعة الإخوان المسلمين في مصر سيكشف عن انتفاء أي فروق كبيرة بين ما يطرحونه وبين نموذج الديمقراطية العلمانية ذي الميول الليبرالية وبالذات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية، هذا الملمح واضح في تجربة العدالة والتنمية خاصة في المساحة الاقتصادية حيث الحديث عن الحرية المطلقة للسوق والمنافسة المفتوحة وانسحاب الدولة الكامل من الاقتصاد لحساب قوي المجتمع ..كمحاور أساسية لمشروعه "الإسلامي"!.
قد لا يفضل الإسلاميون الديمقراطيون في مصر مقارنتهم بالعدالة والتنمية ويحيلون – باستمرار – إلي الخصوصية المصرية أو التركية ..لكن الواقع يقول أنه بصرف النظر عن كثافة حضور الشعارات والجدل العقائدي في الحالة الإسلامية المصرية عنها في نظيرتها التركية فإن هناك تقاربا بين إسلاميي البلدين في المسألة الاقتصادية والاجتماعية حيث تكاد تتطابق رؤيتهم مع النموذج الليبرالي، ويبقي الحديث عن الخصوصية غائما غير محدد .. وفي حديث "الإسلاميين الديمقراطيين" لا تكاد تظهر الروح الدينية الإسلامية إلا في البعد الأخلاقي الذي لا يصلح معيارا للحديث عن شكل مغاير في طرح الدولة يقدمه الإسلاميون.
دراسة الإسلاميين الديمقراطيين تحيل الأذهان إلي استدعاء تجربة اليمين المسيحي في الولايات المتحدة..حيث النموذج النيوليبرالي في غطاءات أخلاقية دينية..وكأنما يعطي الإسلاميون لبشارة فرانسيس فوكوياما بنهاية البشرية إلي النموذج الليبرالي صك اعتراف حيث انتهت إليها كل الطرق بما فيها طريق الإسلامي الديمقراطي!.
إسلاميون أم ديمقراطيون...أم إسلاموقراطية؟
ما سبق يجرنا إلي قضية بالغة الأهمية تتعلق بديناميات تحول الإسلاميين نحو الديمقراطية وما يتصل بهذه القضية من إدماج الإسلاميين في النظام الديمقراطي فهو يأتي في سياق السعي إلي تجاوز وضعية الحصار والمنع الذي ضربته الأنظمة العربية علي الحركة الإسلامية ومن ثم فهو متأثر بملابسات هذه الحالة فيأتي الطريق الديمقراطي طريقا وحلا وحيدا للخروج من هذا المنع، وفيه يعيد الإسلاميون الديمقراطيون تحت الضغط العلماني إنتاج تجربة التوبة التي خاضها نظراؤهم الجهاديون تحت الضغط الأمني؛ توبة ليس عن العنف وإنما عن التأخر في تلبية نداء الديمقراطية…فتأتي مقارباتهم للديمقراطية استجابات جزئية لاستجوابات- في الغالب إعلامية ثم سياسية بدرجة أقل- تلاحقهم أينما حلوا عن الموقف من الأقباط والأقليات الدينية أو المرأة أو الغرب أو حرية الرأي والإبداع ..وغيرها من أسئلة وهواجس اللحظة الراهنة.
يتجاوب الإسلاميون الديمقراطيون مضطرين- تحت وابل من القصف العلماني السلطوي -مع أسئلة الديمقراطية، لكن تعاطيهم يغلب عليه منطق التعامل بالقطعة وليست بناء عن رؤية كلية أو كاملة، وهو تعاطي اضطراري يبدأ أصحابه بالإقرار مبدئيا بالمنطق الديمقراطي ثم لا يلبثون أن يخضعوا لقوة هذا المنطق دون أن يعطيهم الإيقاع المتسارع للعمل السياسي الفرصة لبلورة رؤية " إسلامية" كاملة..وليس مجرد اجتزاءات لا تخلو من الارتجال والبرجماتية والتلفيق أحيانا حيث تختلط النظرة للديمقراطية كآليات مع النظرة إليها كنظام للمشاركة السياسية، أو كمبادئ أو كفلسفة ونسق فكري كامل.
إن طريقة الخضوع ومنطق التائبين الذي يتعاطي به الإسلاميون الديمقراطيون مع الديمقراطية له سوءات كثيرة أقلها أنه يقطع الطريق علي تفاعل خلاق كان يتم من دون قسر أو إرهاب فكري داخل جماعات إسلامية – كالإخوان- مع المسألة الديمقراطية..يمكن ان نضرب مثالا علي هذا التفاعل الذي من شأنه توطين جملة من المفاهيم والممارسات الديمقراطية بالمجمع الانتخابي في تنظيم الإخوان المسلمين...فبإزاء مشكل ديني يتعلق بحساسية المؤمن من أن يتنافس علي السلطة أو يسعي إليها مزكيا نفسه علي الآخرين ( هناك حديث شريف نصه: نحن لا نوليها من طلبها، إضافة إلي قوله تعالي" ولا تزكوا أنفسكم" ) انتهي الإخوان إلي اعتماد فكرة المجمع الانتخابي ففي مستويات تنظيمية محددة – مثل انتخابات مجلس الشورى ومكتب الإرشاد- يكون الجميع مرشحا للمنصب والجميع من نفس المستوي التنظيمي له حق التصويت، وفي مستويات أخري تكون يختار المرشح من قبل مجمع وليس بقراره الفردي..وهو ما يلجأ إليه التنظيم في اختيار من يترشح للانتخابات البرلمانية.
إنها مقاربة- علي بساطتها – تكشف عن قدرة علي توطين الديمقراطية في بيئة تنظيم إسلامي وتقديم فهم معاصر يفكك المضادات التي تحول دون تقبلها أو استقرارها في بيئة إسلامية..وهو ما يتم داخل هذه التنظيمات بشكل أكثر وعيا ونضجا ومن دون إكراهات معارك النخب السياسية وحروبها....وأتصور أنه لو توفرت بيئة هادئة للإسلاميين وتراجعت النزعة البرجماتية لديهم لأمكنهم تقديم مقاربات أكثر تميزا في توطين الديمقراطية بدلا من "أسلمتها" علي طريقة وجبات الفاست فود..التي يحل فيها " مؤمن " بدلا من " هامبورجر"!.
يمكننا أيضا التوقف أيضا عند موقف الإسلاميين من الرفض الكامل للديمقراطية إلي القبول بها دونما أي تحفظ أو – علي الأقل- نظر إلي سلم القيم الإسلامية الحاكمة، فالحرية التي هي مركز المنظومة الديمقراطية الليبرالية ليست هي بالضرورة جوهر المنظومة الإسلامية التي تقر بالحرية دون أن تجعل منها جوهرا للممارسة السياسية، بل تطرح بإزائها قيمة العدل جوهرا ، كما أن مفهوم الحرية في منظومة القيم يحيلنا إلي حرية معان ودلالات أخري تختلف مع ما تمثله في الرؤية الغربية التي تري الإنسان مركزا للكون وتتعامل معه كمرجعية مطلقة، ومن المفيد الإشارة – في هذا الصدد- إلي ورقة غير منشورة للمفكر الفلسطيني سعيد خالد الحسن بعنوان:( ملاحظات معرفية حول الديمقراطية ) وقدم فيها مقاربة تستحق التأمل.
إدراك هذه الفروقات يبدو مهما ليس علي المستوي المعرفي فحسب وإنما علي مستوي الوعي بطبيعة المجتمعات العربية والإسلامية؛ التي دائما ما كان العدل فيها هو المقابل للاستبداد وليست الحرية...وكذلك في إمكانية إرساء نظام للمشاركة السياسية لا يختلف فحسب مع النظام الليبرالي وإنما يتجنب المشكلات التي يعانيها وفي مقدمتها تحول الانتخابات إلي صناعة لها محترفون وأباطرة زيادة نفوذ هيمنة رأس المال والإعلام وتوسع مافيا هذه صناعة الانتخابات التي بدأت في الانتشار والرواج في بلاد أصبح موسم الانتخابات فيها كموسم الحصاد من شدة ما اجتمع من فقر وجهل...إضافة إلي عدم جدارتها في أن تعطي تمثيلا حقيقيا للجماهير ( هناك مقاربات أخري تركز علي فكرة الكتل الانتخابية: نقابات ومهن وحرف واتحادات وروابط أكثر تمثيلا لمكونات المجتمع الحقيقية )
وفي حديث الإسلاميبن الديمقراطيين تغيب قضية بالغة الأهمية تلك التي تتعلق بالذي يمكن أن يقدمه الإسلام/ الإسلاميون للديمقراطية رغم أنها أهم ما يمكن أن ينجزه الإسلاميون في قضية التحول الديمقراطي في العالم العربي. فلكي نتحدث عن إبداع للإسلاميين في هذه المساحة فلابد أن نتحدث ماذا ستستفيد الديمقراطية من الإسلاميون؟
من خلال متابعة ورصد لجملة من تصريحات وأحاديث لقيادات حركية إسلامية وخاصة ما يطرحه عبد المنعم أبو الفتوح القيادي البارز في حركة الإخوان تبدو فكرة الحماية الدينية للديمقراطية وللآليات والإجراءات المتصلة بها هي الإضافة الأهم للإسلاميين في قضية التحول الديمقراطيين؛ فهي حماية تحول دون الانقلاب عليها أو تفريغها من مضمونها أو التحايل عليها عبر تزوير الانتخابات أو شراء الأصوات أو التزييف والخداع عبر الماكينات الإعلامية الجبارة.
إن من شأن اهتمام الإسلاميين بهذه المساحة أن يوفر نوعا من الحماية الدينية لعملية التحول الديمقراطي لا تسرع فحسب منه بل وتمنع آثاره الجانبية التي يمكن أن نجدها في العالم الغربي؛ إذ يصير التزوير والتزييف والدعاية بالباطل وشراء الأصوات باطلا وحراما يعاقب فاعله والمحرض عليه في الآخرة ويلاحقه الخزي والشعور بالذنب قبل العقاب القانوني في الدنيا ..
يمكن أن نثمّن في ذلك الشعار الانتخابي ( ولا تكتموا الشهادة ) الذي رفعه الإخوان المسلمون في انتخابات عام 2000،( ومن أسف أنه غاب في انتخابات 2005 ) وهو يؤكد فكرة أن الحضور والتصويت لاختيار ممثلي الأمة- وحسنا فعل حين لم يذكرهم بالاسم- هي شهادة أمام الله عز وجل ويأثم تاركها: (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) ...وهناك الطرح الذي قدمه عبد المنعم أبو الفتوح الذي يذهب إلي تحريم التربيطات الانتخابية وكل ما من شأنه تضليل الناخب عن الحقائق التي يجب أن يعلمها في المرشحين وفي مجمل العملية الانتخابية بما يؤثر في اتجاهات تصويته..
إن اهتمام الإسلاميين بهذه المساحة في قضية الديمقراطية وتعميق مقارباتهم فيها يمكن أن يعد مساحة تميز وإضافة في طريق توطين الديمقراطية في بيئة وثقافة إسلامية.
إن نظرة لمجمل مشهد تحول الإسلاميين نحو الديمقراطية لتؤكد أن الإسلاميين صاروا في موضع المفعول به وأن اللعبة الديمقراطية استوعبتهم وفرضت منطقها عليهم وأنهم بدلا من أسلمتها باغتتهم، وليس من عبارة كاشفة في هذا الصدد أفضل مما ذكره الباحث الفرنسي جان ماركو في بحثه ضمن الكتاب من أن ما حدث في التجربة التركية يوضح أن هؤلاء الإسلاميون الذين أرادوا تغيير الجمهورية العلمانية هم الذين تغيروا في نهاية الأمر بفعل الجمهورية العلمانية!.
وما لم يحدد الإسلاميون ويدققوا فيما سبق سيتأكد – لي علي الأقل- أننا يصدد تكرار تجارب الأحزاب المسيحية في أوربا..وأننا بصدد الوقوع في مكر التاريخ إذ بدلا من أن نبني الدولة الحديثة ونستوعبها إذا بها هي التي تفعل ...العبرة واضحة في نموذج العدالة والتنمية..وبدرجة أقل لدي الإخوان الديمقراطيين في مصر .