تصوف نيو لوك في السودان!
باحث وصحفي مختص في الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
شهدت السنوات الماضية بزوغ وانتشار ظاهرة الدعاة الجدد، بدأت في مصر ومنها انتشرت في بلاد عربية وإسلامية أخري، وجذبت اهتمام الكثير من الباحثين والمهتمين، وقد كانت وجهة نظر البعض أن القول بتعميم الظاهرة وقابليتها للانتشار في كل مكان ربما يكون تعميما يفتقد الدقة، وكان من الصعب – مثلا – الحديث عن إمكانية أن يظهر تيار الدعاة الجدد ويعرف طريقه في بلد كالسودان، فهي تخضع لحكم جبهة الإنقاذ الإسلامية التي كانت أول حركة إسلامية تصل للسلطة في العالم العربي وتعلن إقامة الدولة الإسلامية لتطبيق ما أسمته ب " المشروع الحضاري الإسلامي"، كما أنها أكبر قلاع التصوف في العالم العربي التي تسيطر عليها الطرقية بما لا يدع لداعية مستقل عنها سبيلا إلي الناس.. وأذكر أنني في زيارة للشيخ حسن الترابي في منزله وجدت وفودا من الطرق الصوفية تزوره والرجل يجلس معها ويحدثها بنفس طريقتها وحين انصرفت ردد معها الأذكار الصوفية وحياهم بطريقتهم..ساعتها سألته مستغربا موقفه المتشبه بالطرقية وهو أشهر زعماء الإسلام السياسي فقال: من يتجاوز الصوفية في السودان فليبحث عن بلد آخر إذ لن يكون له مستقبل فيها!
كان رأيي أن ظاهرة التدين الجديد التي انتشرت في كثير من البلاد العربية ربما لن تشهد امتدادا لها في السودان، غير أنني حين زرتها وبحثت عن ظاهرة الدعاة الجدد وجدتها ولكن متدثرة بالعباءة الصوفية في أبهي صورها.
أول ما نزلت السودان سألت عن الشيوخ الشباب ممن لهم حضور في أوساط الشباب وتأثير، فأجمع الأصدقاء علي أنه الشيخ الأمين عمر الأمين شيخ الزاوية المكاشفية القادرية في أم درمان.. لخص لي البعض ظاهرة الشيخ الأمين بقوله " شيخ مودرن ..كلامه جيكسي ( أي مثل كلام الشباب الخنافس الروش ) ومحايته بيبسي ( والمحايا هي الماء المبارك الذي يوزعه الشيخ الصوفي علي مريديه) !!
وفي يوم جمعة ذهبنا – ومجموعة من الأصدقاء السودانيين- إلي زاوية الشيخ في أم درمان لحضور حضرته ودرسه الأسبوعي الذي يجمع مريديه وجمهوره..فكانت أغرب حضرة لشيخ صوفي يمكن أن تراها، فهي الصوفية الجديدة في أحدث وأغرب طبعاتها.
حين تزور هذه الزاوية لابد وأن تراجع الصورة التقليدية عن زوايا الصوفية فهي ليست – كما استقر في وعينا- المكان النائي البعيد الذي يشبه كثيرا أديرة الرهبان، أو المكان الذي يأوي إليه الفقراء المعوزون أو قبلة المنصرفين عن الحياة الهاربين منها بحثا عن النجاة، بل هناك صورة مختلفة تماما إلي النقيض.
فهي في حي من الأحياء الراقية، ملحقة بفيلا واسعة لشيخها الأمين، وتطل علي ساحة كبيرة، وما تكاد تقترب حتى تفاجئك طوابير لأفخم السيارات تشغل الشارع المؤدي إليها والشوارع الجانبية منه، بل وستجد صعوبة في الوصول إليها بالسيارة بسبب الزحام الشديد الذي يؤدي- كما قيل لي - إلي أزمة مرورية في كل درس أو حضرة.
وتزداد الدهشة مع تصفح جمهور الحضور فالغالبية العظمي من الشباب الذين تطل من وجوههم إمارات اليسر والنعيم والانتماء لعائلات وطبقات اجتماعية جد ميسورة ومميزة ..تعرفت علي بعضهم : مهندسون وأطباء ومحامون ورجال أعمال، أحدهم يعمل مهندسا في الحاسب الآلي ,هو الذي تولي تعريفي بالزاوية والحضور الذين كانوا قد انتهوا لتوهم من حضرة في الساحة وافترشوا الحصير – حصير مميز غير الذي عرفت به زوايا الصوفية- انتظارا لصلاة المغرب. الجميع يرتدون الزى الأخضر، وهو زي اقترحه الشيخ الأمين لأتباعه، ولكنه ليس الأخضر الباهت الذي عرفته به الصوفية ..بل هو اخضر فخم وبراق وموشي بلون احمر
من بعيد كنت قد لمحت الشيخ الأمين يحدث مريديه عن أهمية ويقوي همتهم ويدعوهم إلي عدم الاهتمام بالنقد الذي يوجه لهم وله، فقد كان هناك الكثير من الشيوخ التقليديين من يكثرون من نقده ، كما علمت، ويؤكد لهم أن نقده وسبابه دليل علي أنهم علي الصواب وأنهم يسيرون في الطريق الصحيح!
الشيخ الأمين هو نموذج جديد تماما علي الطرق الصوفية، فهو شاب لم يكن قد جاوز الثامنة والعشرين حين تم تشييخه عام 1992 في الطريقة المكاشفية علي يد الشيخ عبد الله بن الشيخ يوسف قرشي المكاشفي المعروف ب ( ود العجوز )، وكان غريبا وقتها أن يخصه الشيخ بهذه المكانة في طرق عرفت باحترام تقديم الكبار والأخذ عنهم، وقد بدأ دعوته معتمدا علي أصدقائه الذين اختار منهم خليفتيه (الأول: مرتضي البنا، والثاني أيمن عمر).
الشيخ الأمين لم يتحصل علي دراسة دينية منظمة بل هو من خريجي التعليم المدني، فقد جاز المرحلتين؛ المتوسطة والثانوية من مدرسة أم درمان الأهلية، ثم سافر للدراسة بالسعودية فالتحق بجامعة الملك عبد العزيز لم يدرس العلوم الشرعية وإنما درس إدارة الأعمال وحصل فيها علي شهادة البكالوريوس!
عمل الشيخ الأمين في البيزنس، وهو يدير استثمارات خاصة به في مدينة دبي، وهو إضافة إلي ذلك صاحب ومدير توكيل إحدى شركات التكييف العالمية بالخرطوم، فهو – بلغة العصر- بيزنس مان.
اصحبني بعض مريديه إلي بيته للقائه بعد الدرس فإذا به فيلا واسعة كبيرة أشبه بقصر، جلست في صالة استقبال الضيوف فرأيت علي إحدى الحوائط صورة كبيرة له بحجمه الشخصي يرتدي فيها العباءة الخضراء وخلفيته السماء يبدو فيها وكأنه أشبه بملاك يحلق في السماء..والشيخ الأمين بالمواصفات السودانية والأفريقية رجل وسيم فهو طويل وعريض قوي البنية في وجهه قوة وجرأة تشبه ملامحه – إلي حد كبير- الزعيم الأمريكي الأسود مالكوم إكس أو الحاج مالك شباز بعد إسلامه!
بعد الحضرة الصوفية التي تبدأ العصر وتنتهي مع أذان المغرب، وهي أشبه بالذكر المعروف عند الطرق، يجلس الحضور في مربع يكمل ضلعه الرابع الشيخ الأمين ومن يستضيفهم من شيوخ الزاوية الكبار، وفي خلف الشيخ تجلس غير بعيد عنه النساء والفتيات في صحبة زوجته علي الكراسي – وليس الأرض كالرجال والشباب، وكل الجمهور أو جلهم من الشباب تقريبا، وزوجته سيدة في منتصف العمر، حسنة المظهر أنيقة الملبس تحيط بها مريدات الشيخ كما الأميرة أو الملكة غير المتوجة، ويحرصن علي التبرك بها.
حكي لي صديق عن الفرح الأسطوري الذي أقامه الشيخ الأمين لعرسه، ونوعية الحضور والتساهل في الأزياء وأجواء الرفاهية والبذخ التي صاحبته علي غير المعتاد عند المتصوفة ..وهو في دروسه- وفي الدرس الذي حضرته- يؤكد علي ذلك، ويتساءل مستنكرا اتهامات معارضيه: وما المانع؟ ولماذا لابد وأن يكون المسلم فقيرا؟ ولماذا لا تكون للمسلم الدنيا ومن عليها؟..هو يتحدث دائما عن أعدائه وخصومه الذين يغارون منه ويحسدونه ..ويقول متهكما: إن أفضل الدعاء " اللهم زد حسادي"!..لأن كثرة الحاسدين دليل النجاح!.. هو نفسه يمتلك أكثر من سيارة علي أحدث موديل وربما لا توجد منها إلا عدد قليل في السودان كله ..وحين يتحرك ففي موكب تسبقه وتليه سيارات مرافقيه في طقوس تشبه مواكب الأمراء والملوك!
للشيخ الأمين طريقة جديدة في الدرس الصوفي وفي العلاقة بين الشيخ والمريد التي يخلق فيها حالة من التواصل بينه وبين جمهوره وليست بطريقة التوجيه المباشر من الشيخ إلي المريد، فهو يدير الدرس بطريقة تقوم علي المشيخية التي تغلفها وتكسوها روح الأخوة والتباسط والشبابية التي تفرضها شخصية الشيخ وأعمار المريدين...يتحدث الشيخ الأمين باللغة السودانية الدارجة التي تمتلئ بالأمثال العامية والقصص المحلية، وهو ما يقربه كثيرا من أوساط الشباب ولكنه يعوق انتشاره خارج السودان حيث تبدو اللغة والاقتباسات غريبة علي غير السودانيين خاصة وأن الفضاء الإعلامي العربي لم يعتد اللهجة السودانية ولم يألفها من قبل سواء في الدراما أو الدروس الدينية، وإن كان لا يمنع ذلك من انتشارها في أوساط الجاليات السودانية – وهي كثيرة – بالمهجر، وقد أعطي الكلمة لأحد مريديه الذي افتتح زاوية للطريق المكاشفية القادرية بالولايات المتحدة، كما نوه إلي زاوية أخري بأمستردام.
وبسهولة يمكن ملاحظة مساحة التجديد التي يقوم بها الشيخ الأمين في العلاقة مع شيوخ الطرق من ناحية ومع المريدين من ناحية، فهو يتقرب من مريديه ويخالطهم كأنه واحد منهم ولكنه يحتفظ في الوقت نفسه بمسافة معهم تفرض عليهم كل طقوس الاحترام والتبجيل المعروفة عند المتصوفة مثل تقبيل اليد والمبالغة في الإجلال والتوقير..وهي العلاقة نفسها فهو
التي يقيمها مع شيوخ الطرق: الوقوف في منزلة بين المنزلتين؛ بين تأكيد الارتباط بهم والاستقلال عنهم في الوقت نفسه!
فهو الذي يدعو شيوخ الطرق للحضرة والدرس، وهو الذي يقدمهم في درسه ..يجلسون معا علي الأرض لكنه يتقدمهم بدون أن تكون التقدمة ظاهرة، ثم هو الذي يتفاعل مع الجمهور يوجههم ويختار منهم من يتحدث ويسأل، وهو الذي يوزع علي المشايخ تساؤلاتهم ليجيبوا عنها، ورغم هالة التقدير التي يحيطهم بها والثناء الذي لا يكف عن توجيهه لهم والإجلال من شأنهم وتوقيرهم إلا أن الحاضر لن يتعب كثيرا في تتبع كيف يرسخ لسلطته الروحية هو..فهو- في النهاية- الممسك بزمام الحضرة والمسير لها
كان الدرس في أوجه حين قدم وفد من كبار شيوخ الزاوية المكاشفية القادرية يمرون لتفقد الزاوية ومتابعتها فأوقف الأمين الدرس وقام ومعه الحضور تقديرا مذكرا بقول النبي صلي الله عليه وسلم : " قوموا لسيدكم " ..ثم قام بتقديم طقوس الاحترام والتبجيل للمشايخ وأشاد بهم وأكد علي ربط نفسه بهم ..وربما نجح في تأكيد تبعيته لمشايخ الطريقة غير أن الواقع يؤكد أن كل هؤلاء الشباب إنما جاءوا له وليس لهؤلاء المشايخ وأن ارتباطهم الحقيقي به هو وليس بمؤسسة الطريقة التي يجتهد في أن يؤكد انتسابه لها وارتباط أسبابه بشيوخها، رغم أنه تجاوزها بالفعل!
الشيخ الأمين صار مركز الزاوية ليس في الخطاب وإدارة العلاقات فقط بل وفي القيام علي أمور الزاوية وهي أمر يتجاوز مجرد الوعظ والإرشاد فالزاوية- بتعبير أهلها- " مكان لا تطفأ له نارٌ، ولا يتكأ له قدر"، فهو الذي يدبر أمر النفقة علي الزاوية، ومن أهم نفقات الزاوية نفقة الطعام والشراب الذي لا يتوقف طوال اليوم ويقوم عليها مقدم يعينه الشيخ الأمين.
للشيخ الأمين موقع علي الانترنت يحمل اسمه وعليه بيانات عنه وعن الزاوية ومنتدى لمريديه، لكنه قليل الظهور في التلفزيون والفضائيات رغم صلاته الوثيقة بالشيخ صالح كامل صاحب قناة " اقرأ " الذي كثيرا ما يجمعه ونظرائه من الدعاة الجدد – ومعظمهم أصدقائه- مثل الحبيب الجفري وعمرو خالد..وهم جميعا من نفس العمر تقريبا.
الشيخ الأمين يقدر " الدعاة الشباب " ويري أنه في يسير في الطريق نفسه وهو – مثلا- يبدي إعجابه بعمرو خالد كثيرا ولكن يراه يقف عند حد إعلان الدعوة والتبشير بها واستنفار الناس لها أما هو- الأمين- فيجمع الناس ويربيهم ليخوض بهم المعركة..فعمرو يحشد بينما هو يجند ويتابع ويربي.
قد يبدو ظاهريا أن المضمون الذي يقدمه الشيخ الأمين في دروسه هو مجرد دعوة الناس إلي التعلق بأهداب الدين والتزام التصوف طريقا إلي الله، وربما لا يثير أي خلاف ، علي الأقل مع شيوخ الطريقة، لكنه – في بنيته العميقة – يجسد تحولا كبيرا في المنظومة الصوفية، إذ لم تعد- لدي هذا النموذج- تقوم علي الزهد في الدنيا والإعراض عنها والتخفف من أثقالها ، والاقتصار من حلالها علي ما لابد منه ، بل صارت تدعو صراحة إلي الأخذ بأسباب الدنيا والإقبال عليها والتحقق فيها بشرط اجتناب الحرام فقط! ..إنها نقلة كبيرة في الخطاب الدعوي تشابه ما جري من تحولات في ظاهرة التدين الجديد، حيث الرغبة في التصالح مع الغني والثروة والتحقق في الحياة فيما سميته بالبروتستانتية الإسلامية!
لم يعد التخفف من الدنيا والاستعداد- فقط – للآخرة هدف الزاوية، كما لم يعد الزهد في متاعها والرضا بالقليل منه طريق النجاة، ولم يعد مطلوبا من المريد أن يخلع الدنيا مع حذائه عند باب الزاوية ويقبل مشاركة الفقراء وأتباع أهل الصفة أو التصوف شظف العيش في أرض الخمول بعيدا عن الأضواء والشهرة بل صارت الزاوية تدعو مريديها إلي الدخول في سباق الحياة ومنافسة أهلها في اقتسام حظوظ الدنيا ، فيما مضي كانت تحفظ مريديها : " من نازعك في دينك فنازعه، ومن نازعك في دنياك فألقها إليه في نحره" ،أما الآن فتقول له نازعه في كليهما وخذ حظك وافرا من الدنيا ولكن بشرط المنافسة الشريفة الملتزمة بأحكام الدين وأخلاقه.
كانت الزاوية آخر ملاذ للذين أتعبتهم الدنيا وطحن عظامهم منافساتها التي لا تهدأ فجاء الشيخ الأمين ودعاة التصوف الجديد ليعيدوا أبناء الزوايا إلي الدنيا ثانية ويعقدوا معها المصالحة .. وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن ألا تلاقيا!