تساؤلات العقل السلفي في المسألة الفنية!
باحث و صحفي مختص في الظاهرة الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
من يراجع أقوال وفتاوي العلماء والشيوخ الأجلاء في المسائل الفنية يجد أنها من نوع " الكلام الساكت" بالتعبير السوداني، فهو كلام لكنه لا يقول شيئا، علي طريقة الفتوي الشهيرة في الغناء " حلاله حلال وحرامه حرام" التي تعرف الماء بعد الجهد بالماء!
جربنا كثيرا – كإعلاميين- أن نستدعي مشايخنا وعلماءنا الكبار إلي هذا الملف الشائك الملتبس، وحاولنا أن نبدأ نقاشا جادا حولها عسي الله أن يفتح علي أيديهم فيفككوا لنا الألغام المفخخة التي تفجرها أسئلة حقيقية تدور في ذهن المسلم البسيط الذي ارتبطت حياته – ولو من دون إرادته- بالفن وعالمه، ولكن دائما ما توقف العلماء والمشايخ عند حدود الباب دون ولوجه.
جاءت أغلب الإجابات دائما في إطار إعلان الموقف العام للإسلام من الفن، وكيف أنه يدعو إلي الفن الراقي المحترم البعيد عن الإثارة والعري، ويثمن الفن الذي يدعم قيم المجتمع ويعزز مناعاته.. وغيرها من الديباجات الأخلاقية الوعظية التي لا تجاوز الإطار العام لتشتبك مع التفاصيل، والشيطان دائما في التفاصيل كما يقول المثل الإنجليزي.
وكان لافتا أن هذا التعاطي غريب تماما مع ما يمتلكه كثير من هؤلاء العلماء من ملكات فقهية نادرة كان تفعيلها سيجيب علي كثير من التساؤلات ويحل كثيرا من الإشكاليات ويحرر هذه المساحة التي يمكن أن تكون الأضعف في منظومة الاجتهاد الفقهي المعاصر.
كان من الممكن قبل أيامنا هذه أن نذهب إلي ما ذهب إليه البعض من أن هناك عزلة بين عالم الفقه وعالم الفن جعلت مسائل الفن وتفريعاتها مما استدق واستغلق فهمه علي العلماء، وأنهما – الفقه والفن – من بحرين لا يلتقي مرجهما، غير أن الواقع اختلف بحيث يصح القول – من دون مبالغة- أنه لم يعد هناك مسلم لا يتصل بالفن بسبب من الأسباب؛ مشاهدا ومتابعا أو حتي كجزء من عالم صناعة الفن الذي يوشك أن يكون أهم ظواهر عالم اليوم. وهو ما يستدعي جهدا استثنائيا من أهل الفقه في تحرير مساحة لم يعد السكوت فيها محتملا ولم يعد الاشتباك مع قضاياها بل وتفصيلاتها ترفا يترفعون عنه.
أزعم أن التحدي الأكبر هو أمام العلماء والفقهاء بعدما أعطي أهل الفن ظهورهم للقضية واعتبروا أن سفينتهم أقلعت وأن ليس علي الآخرين إلا اللحاق بها، وحسبوا أن علي أهل الفن أن يبدعوا وعلي غيرهم أن يؤطروا أنفسهم علي هذا الإبداع، تأثرا بالفرزدق الذي رفض أن يصوب له لغوي لحنه- خطأه النحوي- في بيت شعر قائلا: علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا!!
يمكن أن نعد هذا المقال بداية لحوار فيما ينبغي أن يتوجه إليه النقاش في تحرير المساحة بين الدين والفن، وسأجمع فيه للفقهاء والعلماء ما يمكن أن يدور في ذهن المسلم البسيط الذي يريد أن يستمتع بالفن أو حتي يعمل به دون أن يجرح ذلك دينه أو ينال من علاقته بالله عز وجل.
لن تكون مفاجأة أن تساؤلات المسلم الراغب في وصل ما انقطع بين الفقه والفن تبدأ من أصل القضية نفسها فمازالت هناك قطاعات واسعة من المتدينين وحتي من غيرهم تتتساءل عما إذا كان التمثيل حلالا أم حراما..وتبدأ عنده سلسلة التساؤلات: ما حكم التمثيل ابتداءا ؟ وهل يجوز للمسلم التمثيل أم يعد كذبا وتدليسا ؟. السؤال يبدو صادما علي الأقل بعد مائة سنة سينما في بلادنا، لكنه حقيقي بالنسبة لقطاعات كبيرة من الشباب حديث الالتزام ولديه نزعة تطهرية ورغبة جارفة في اتباع الدين. ففي أوساط هذا الشباب شاعت فتاوي انتشرت مع تصاعد التيار الظاهري في الدعوة الإسلامية، ورددها بعض المخلصين من دعاة السلفية اعتبروا أن تقمص شخصية أو ادعاء صفة – ولو علي سبيل المزاح والتمثيل- حرام باعتباره نوعا من أنواع الكذب لما فيه من إيهام للبسطاء، كما استندوا في ذلك علي حديث النبي صلي الله عليه وسلم " أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك الكذب ولو كان مازحا".
وقد شهدت في مقتبل الشباب مناقشات من هذا القبيل ولم نزل طلابا في الثانوية، وأتذكر التأثير الكبير لرسالة صغيرة كتبها الشيخ محمد حسين عيسي أحد شيوخ مدينة الإسكندرية بعنوان " جواز المثل والتمثيل"، كتبها يفند حجج الرافضين للتمثيل مستندا علي نصوص دينية، وقد كان لها تأثير بالغ- علي صغرها- في الأوساط الإسلامية نظرا لطبيعة حجاج مؤلفها السلفية.
وينبهنا هذا المثال تحديدا بأهمية التكامل بين النظر الشرعي والنظر الفلسفي في المسألة إذ كثيرا ما يكون المشكل نابعا من معالجة السؤال بنظر فقهي لا يصاحبه اطلاع وإحاطة بالمسألة من وجوه أخري، وأتصور أنه كان بالإمكان تجاوز مثل هذا التصور الخطأ عن مفهوم التمثيل بالعودة لكتاب مثل " التمثيل وكسر الإيهام" الذي يكشف خطأ هذا التصور.
وإذا انتقلنا إلي الإقرار بالإباحة لمطلق التمثيل سنفاجيء بسؤال لا يقل أهمية: هل يجوز للمسلم احتراف التمثيل ( وما يتبعه) واتخاذه مصدرا وحيدا للرزق ومهنة يعرف بها في المجتمع؟ فمهنة التمثيل مازالت- علي الأقل بين المتدينين- موسومة بكل معاني السوء التي تستلزم الازدراء والاحتقار، ومازالت نظرتنا تقوم علي أننا نضحك للممثل ونعجب به ولكن لا نعتبره ولا نزوجه بناتنا! وتزداد أهمية السؤال حين يتعلق الموضوع بالمرأة؛ إذ لو جاز العمل بالتمثيل للرجل فهل يجوز أيضا للمرأة أن تعمل ممثلة وتتخذ التمثيل مهنة؟.
وأتصور أن كثيرين ممن يشغلهم السؤال يختلط لديهم الأمر بين أصل الحق وما يرافقه، وهم لا يتصورون إلا حرمة العمل بالتمثيل لأنه لا ينفصل عن الموبقات التي تنتشر في وسطه وما يلحق بأهله منها.
هذا من حيث المبدأ، ولكننا إذا انتقلنا للتفاصيل فسنواجه بأسئلة أخري: ما المعايير التي يفترض أن تحكم مهنة التمثيل نفسها أولا من حيث اختيار الدور: ما هي الأدوار التي يفضل أداؤها وتلك التي لا يجوز القيام بها؟ وإذا علمنا أن من المفترض أن ينقل التمثيل صورة الواقع الحقيقي المعاش وهو لا يخلو من الشر والانحراف فهل يقبل الممثل ( وخاصة الممثلة) بأداء دور لغير مسلم او تجسيد شخصية منحرفة دينيا أو أخلاقيا أو غير سوية سلوكيا ونفسيا وما يستدعي ذلك من تصرفات وألفاظ وحركات هي غير جائزة في الأصل شرعا؟ وهل تحاسب شرعا على الألفاظ والأفعال والإشارات غير الجائزة شرعا؟ مثل ما يتطلبه القيام بدور كافر أو خلافه من إعلان الكفر بالله وذم الأنبياء وعبادة الأصنام أو تعليق الصلبان ..وغيره مما يقوم به غير المسلمين؟ وإذا قام بدور مسلم؛ هل تقع علي الممثل الأحكام والضوابط الشرعية التي تحكم العلاقات الحقيقية مع الآخرين مثل إعلان الزواج والطلاق في الأدوار التمثيلية( هناك فتاوي سابقة توقعها)؟ وهل يجوز للممثلة خلع الحجاب إذا كانت تجسد دورا لشخصية غير محجبة؟ وما حدود علاقتها بالممثل الذي يمثل معها ( إذا كان يقوم بدور زوجها أو ابنها أو أحدا من محارمها وما يتطلبه ذلك من علاقات خاصة )؟
هناك أسئلة أخري تتعلق أيضا بعملية التمثيل نفسها مثل السؤال: هل يجوز التمثيل في دور العبادة ( إذا كان المشهد في مسجد ) أو تمثيل بعض العبادات وما قد يصاحبه من مخالفات شرعية هي بالأصل منسوبة للشخصية ( مثل تمثيل واقعة زنا أو علاقة غير سوية ..)؟ وإذا كان الجواب بالمنع لحرمتها فهل يمكن الاستعاضة عنها ببلاتوهات للتمثيل ( علي أنها ستشير للمسجد أيضا )؟ وما حكم تجسيد الشخصيات الدينية مثل الملائكة والأنبياء؟ وما حجة المنع؟ هل هناك نصوص قاطعة أم أن روح الدين نفسه تمنع من تجسيدهم من دون نص محدد؟ وإذا كانت الإجابة بالمنع فهل يجوز الاستعاضة عنا بمؤثرات صوتية أو بصرية ( نور ، سحاب ، هالات بصرية...)؟ ثم ما حكم تجسيد شخصيات الصحابة ؟ وهل هناك فروق بينهم تسمح بمنع تجسيد البعض وجواز تجسيد الآخرين كما نري في الفتاوى التي تحرم ظهور العشرة المبشرين بالجنة وتمنع غيرهم؟ وما حكم اللجوء إلي الصلصال والرسوم المتحركة في تجسيد الشخصيات عموما والشخصيات التي تحمل مكانة دينية بشكل خاص؟ هل يعد ذلك من قبيل المسخ كما يفتي البعض؟
وبعيدا عن التشخيص نجد أمامنا السيرة نفسها. ففي حال تمثيل الوقائع التاريخية خاصة المتعلقة بالأنبياء والصحابة الكرام وعظماء الأمة : هل يجوز التصرف الأدبي والفني في الوقائع بما يستلزمه العمل الفني أم لابد من الالتزام الحرفي بها؟ وهل يجوز التطرق إلي المساحات الخاصة في حياتهم ( المساحات العائلية مثلا وعلاقاتهم بزوجاتهم وخصوصياتهم) أم يكتفي بما يمثل المساحة العامة؟
هذه الأسئلة ربما تستدعي مراجعة وتحرير لمفهوم غض البصر نفسه، فماذا يعني غض البصر بالنسبة لمشاهد الإعمال الفنية التي وجدت لتشاهد؟ هل يمكن أن نتحدث عن فرجة من دون مشاهدة كاملة؟ هل ينطبق علي الفرجة مثلا مفهوم غض البصر كما نعرفه من تحريم النظر إلي المرأة وأن الأولي إذا كانت لنا فإن الثانية علينا؟ هل النظر هنا هو مطلق النظر أم هو النظر بشهوة؟ وماذا عن جر هذا إلي مساحة الفرجة علي الأعمال الفنية بل غيرها من برامج ونشرات أخبار تقدمها مذيعات: هل هناك حظر علي المشاهد/ المشاهدة في النظر إلي الممثلة/ الممثل؟ وإذا كان هناك منع أو جواز فهل هو خاص بمطلق النظر أم لحالات محددة مرتبطة بكشف العورات؟ وإذا كان سبب غض البصر هو سد الذريعة للزنا فهل ينطبق ذلك علي المشاهد التي لا تؤدي به المشاهدة إلي الزنا؟..ربما سمعنا مثلا عن فتاوى منسوبة لحزب التحرير تجيز النظر إلي صورة المرأة – فوتوغرافيا أو تليفزيونية- حتى ولو كانت بها إثارة باعتبار أمن الزنا..فما مدي صحة ذلك وانسجامه مع روح الإسلام وفقهه؟
هناك أسئلة تتعلق أيضا بإنتاج الأعمال الفنية نفسها وكثيرا ما تلح علي من يعملون فيها من خارج فريق التمثيل ( إضاءة وتصوير وغيره..) وكثير منهم يعمل بهذه المهنة من دون قناعة بها ويتساءلون: ما حكم من يقومون بتصوير الأعمال الفنية التي تجمع بين رجال ونساء؟ هل هم مطالبون بغض البصر مثلا؟ وكيف يمكن تحقيقه والعمل لا يستقيم إلا بتركيز البصر؟ وهل يجوز لهم تصوير مشاهد عائلية أو خاصة؟ وماذا إذا كان العمل الفني به بعض المخالفات الشرعية؛ هل يجوز له العمل به أم يعد مشاركا في الإثم؟ وما حكم من يقومون بالإعداد لهذه الأعمال : فريق التجميل والملابس واختيار الأزياء وصناعة التماثيل..؟
سرد الأسئلة بهذا التتابع الذي يدخل في التفاصيل ربما يكون صادما بل ومزعجا، لكنه يكشف إلي أين انتهت تساؤلات العقل السلفي في مسالة الفن والذي هو عقل اللحظة الحالية، كما أن أسئلته التي قد لا يتصورها المثقفون فضلا عن أن يقبلوا بالاشتباك معها هي أسئلة التيار الغالب من المسلمين، الذين يشاهدون الفن ويتمتعون به ثم يستغفرون الله منه ومن آثامه وإثم مشاهدته، بل لا يصح التزام المرء أمام نفسه إلا حين يقلع عن المشاهدة، بل هي أيضا أسئلة قطاعات كبيرة من أهل الفن نفسه يتجنبون طرحها حينا من الزمن يجمدون فيه قلق الضمير حتى إذا ضاق بهم أو ضاقوا بقلقه أجابوا بأنفسهم عنها في صورة هجرة إلي الله وتوبة تقطع كل حبل كان يصلهم بالفن وعالمه وأهله كما نري بين الحين والآخر فيما عرف بتوبة الفنانين.
كثيرون – حتى من بين الإسلاميين والدعاة- لم يعودوا يفرحون كالسابق بتوبة هذا الفنان واعتزال هذه، بل وبعضهم يدعوهم إلي البقاء في مجال الفن لإصلاحه أو تقديم فن بديل هادف، غير أن الأمر لا يعدو الأماني التي قد يتعلق بها الدعاة والمصلحون فيما لا تمثل أي اعتبار لمن تمكن منه طلب الخلاص من حقل " الموبقات "! إذا أن مازالت الأسئلة الملحة بلا إجابات تغري الفنان – وبخاصة الفنانة- بأن يمضي في طريق كل تساؤلاته الدينية بلا إجابات مقنعة!
كما أن أماني الدعاة ودعواتهم الملحة لا يواكبها أي مقاربات اجتهادية في الموضوع بل هي لا تجاوز النصائح البسيطة علي شاكلة " اغسل يديك قبل الأكل وبعد الأكل"!.
بصراحة باب الاجتهاد في هذه المساحة مازال مغلقا تحوطه الهيبة والخوف من الزلل حينا ومن أن " يحرق " المجتهد نفسه أمام الناس أحيانا! فللجمهور سطوته كما للسلطان وليس سهلا علي أي أحد تحديها، ولا يلقاها إلا ذو حظ عظيم، وليس من يتعاملون مع قضايا الناس بطريقة " سكن تسلم "!. وبعيدا عن اجتهادات المذهب الشيعي الذي لا أدين به ربما لم أطلع في الفقه السني علي ما يشتبك مع هذه الأسئلة، بل وربما لم يتحدث فيها أحد، وكان الوحيد الذي قطع شوطا في هذه المساحة الدكتور حسن الترابي الذي كانت له رؤية بالغة الانفتاح أو التساهل ربما في هذه الأمور مقارنة بغيره من المجتهدين السنة، وحين زرته في بيته بالخرطوم سألته عن موقفه فوجدته مختلفا تماما عن كل الفقهاء والمجتهدين فهو يبيح التمثيل وكل ما يتعلق به من دون أي ممانعة، وأذكر أنني سألته في معظم هذه الأسئلة تقريبا فما أجاب بمنع في واحد منها!
لا يفهم من هذا الحديث الدعوة إلي تجاوز حدود الله وحرماته، فمن جاوزها ابتدءا لا يسأل في التفاصيل وإنما أري نفسي مثل غيري من خلق الله الذين يريدون أن تتفق سيرتهم مع ما يرضاه الله، يشاهدون الأعمال الفنية فيستمتعون ببعض منها وتعاف نفوسهم ما شذ وبالغ في الخروج عن الدين وضوابطه، ويمنون أنفسهم بإجابات تشفي الصدور، وإلا سنظل نشاهد الفن ونستمتع به ونستغفر الله من الزلل حتى يرزقنا الله بتوبة نصوح!