ماذا جرى لعقل الإخوان الاستراتيجي ؟
باحث و صحفي مختص في الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
سؤال لابد منه في ضوء ما أثارته مقالة " الإخوان والأمريكان: أسئلة حول مواقف ملتبسة " التي كانت قد نشرها موقع المصريون، فقد انهالت علي الرسائل والاتصالات تشتبك مع الموضوع رفضا وتصويبا أو قبولا واستحسانا. وجهات النظر التي عرضت ذات قيمة وأهمية، واستعراضها قد يطول بما يحتاج مقالا منفردا أو مقالات، وهو ما قد أعود إليه، لكن ما لفتني بشدة هو أنها تؤشر إلي أهمية طرح هذه القضايا الشائكة على الجماعة الإسلامية الأكبر، ووضعها أمام مسئولياتها التاريخية والتحديات الحقيقية التي تواجهها.
أنا من الذين يذهبون إلي أن عقل الإخوان الاستراتيجي يمر بأزمة، وهي أزمة عنيفة تكاد تفقده صوابه وتوازنه، وتخلط عليه الأمور في التمييز بين الثوابت والمتغيرات وماذا يقدم اليوم وماذا يستبقي للغد.
مؤشرات هذه الأزمة كثيرة ويمكن رصدها وتبينها لأي متابع للشأن الإخواني أو مهتم به، كما يشعر بذلك كثير من الإخوان خاصة الشباب الذين لم يدجنوا بعد ولم يتم استيعابهم في تروس الماكينة التنظيمية العملاقة القادرة على ابتلاع أي معارضة أو اتجاه لتعديل المسار.
من يتابع الإخوان لا يخفى عليه أن الجماعة مرت في العشر سنوات الأخيرة بتحولات كثيرة ومتسارعة، على مستوي المشروع والرؤية والأفكار والتكوين والقواعد نفسها، وقد وقفت عند بعضها في كتابي ( تحولات الإخوان المسلمين: تفكك الأيدلوجيا ونهاية التنظيم )، وهذا في حد ذاته ليس عيبا أو خطأ إذا ما كان تطويرا للرؤية واستجابة للحظة التي تعيشها، لكنها تصير مشكلة بل وكارثة حين تتم بغير وعي ومن دون قصد أو كرد فعل عشوائي متسرع وآني كما حدث ويحدث في أكبر تحولات الإخوان وأخطر قراراتهم الاستراتيجية.
فمعظم تحولات الإخوان في قضايا مثل المرأة والأقباط والآخر ( الداخلي العلماني أو الحكومي أو الخارجي الغربي وغير المسلم عموما ) تتم في صيغة تصريحات صحفية عارضة وعفوية ومفاجئة تعيد النظر في مواقف تاريخية ورؤى استراتيجية ظلت ثابتة هكذا بجرة قلم أو بكلام عفوي يلقى على عواهنه ينتقل بالجماعة من الشيء إلى نقيضه من دون أن تسبقه أي دراسات أو مناقشات أو مراجعات تبث الطمأنينة بأن هناك عقلا يفكر وينظرـ أو تقنع الأتباع والأنصار بل والخصوم بأن ما جرى له ظل من الحقيقة والمصداقية!
في تصريحات صحفية لا تستغرق من صاحبها جهد التفكير ينتقل الإخوان من رؤية إلى أخرى النقيض منها؛ من خطاب كان يتحدث عن أهل الذمة ويستند على فتاوى تتحدث عن حرمة بناء الكنائس في البلاد التي فتحت حربا أو ترميم ما تهدم منها في البلاد التي فتحت صلحا ( ومصر ينطبق عليها الحالتان ) إلي خطاب آخر يتحدث عن القبول برئيس مسيحي لمصر إذا جاء بالانتخاب ويقبل بل ويرحب بتأسيس حزب مسيحي، وأصحاب الخطابين في سدة القيادة ( الشيخ عبد الله الخطيب الذي عرف بمفتي الإخوان والدكتور عصام العريان مسئول المكتب السياسي للجماعة)، ولا نعرف على أي أساس كان الخطاب الأول ولا على أي تأسيس جديد بني الخطاب الثاني!
من يستعرض مجمل المواقف الإخوانية في العقد الأخير – وخاصة السنة المنصرمة التي شهدت سيلا متدفقا من التصريحات والمبادرات الإخوانية- يمكنه أن يرصد هذا التحول غير الواعي وغير المنضبط ، وهو ما يتجسد واضحا في الموقف من المرأة التي ظلت مستبعدة من صلب الهيكل التنظيمي في الجماعة زمنا طويلا ثم دفع بها فجأة إلي الترشيح في الانتخابات البرلمانية وتطور الحال إلى تبني مواقف تقترب من الرؤى النسوية الغربية ، وهو ما حدث في الإسكندرية التي فاجأنا بعض الإخوان باختيار امرأة لتؤدي خطبة موازية في صلاة العيد سبقت بها الخطبة الأصلية أمام آلاف المصلين، وذلك بدعوى تصحيح صورة المرأة المسلمة.
سيلاحظ المتابع أيضا أن الجماعة تعاني حالة من الاختلاف تصل حد التناقضات في المواقف الفاصلة والاستراتيجية التي من المفترض أنها محسومة على الأقل في وعي القيادة، مثل طبيعة المشروع الإخواني ( أممية عالمية أم قطرية محلية ) وشكل التنظيم ( جماعة أم حزب ) والموقف من النظام ( تعاون وتصويب أم مواجهة وتغيير )..وغيرها .وبدلا من الوضوح فيها سنجد حين التدقيق تناقضا مرعبا في كل هذه القضايا الاستراتيجية ليس لدى القيادات فحسب وإنما لدى القيادة الواحدة التي لا تستطيع تحديد موقفها في القضية الواحدة فتقول الشيء ونقيضه وتفعل الأمر وضده حتى من دون مسافة زمنية تدفعنا إلى التماس مظنة السهو أو الخطأ أو إعادة النظر..ويكفيك أن تراجع تصريحات الأستاذ المرشد مهدي عاكف لكي تدرك هذا مباشرة..فالرجل يقول في المجلس الواحد والحوار الواحد الشيء ونقيضه في القضية الواحدة..يهاجم النظام تارة ويشتد في المعارضة لتغييره حتى يهدد بالعصيان المدني ( ما يسبق الثورة مباشرة ) ثم هو يشيد بالرئيس ويعدد مكارمه ويطالبه – فقط- بالاستماع إليه وتغيير مستشاريه الذين هم مستشارو سوء، ثم كل شيء قابل للإصلاح!..وهو يتحدث عن أكذوبة التغيير الدستوري وسعي النظام لخداع الشعب بالانتخابات الرئاسية ويتوعد ويهدد بالمقاطعة والويل والثبور وعظائم الأمور ..ثم هو يخذل بعدها كل معارضي النظام والذين استنكفوا الوقوع في أحابيل أكذوبته وخداعه، فيصدر بيانا يدعو فيه الشعب إلي المشاركة في الانتخابات – وهو ما كان النظام يحتاجه ويصر عليه- ولا يجرؤ على إعلان التصويت ضد الرئيس فيها وإنما يدعو الناس إلي عدم تأييد الظالم والمستبد..... مكتفيا بـ " تلقيح" الكلام بدلا من الوضوح والمواجهة وهو ما أحسب أنه لا يليق بمرشد أكبر جماعة إسلامية في العالم.
وفي مظاهرات الإصلاح تأخرت الجماعة في النزول إلي الشارع بقواعدها ثم نزلت فيما يشبه الريح التي لا تبقي ولا تذر مما أثار الخوف منها وعليها ثم هي تنسحب من الملعب كاملا بغير رجعة ولا توضيح ..وهي في كرها وفرها لا تبين عن رؤية استراتيجية تفسر لنا لماذا تأخرت ثم نزلت ثم تراجعت ..ومازلنا لا نعرف موقفها من قضايا أساسية في موضوع الإصلاح أثيرت ولم تقدم فيها جوابا شافيا وعلى رأسها قضية توريث الحكم وإعداد المسرح السياسي لنقل السلطة في الفترة القادمة وأحسب أنها قضية بالغة الأهمية ولا يمكن تركها هكذا للصدفة بدعوى أن لكل حادث حديثا وعشانا عليك يا رب!
ثم إن قراءة سريعة لمواقف الجماعة وتصريحات القيادة وخاصة مرشدها تحيلنا إلى الحديث عن مدى وعي عقل الإخوان الاستراتيجي بذاته؛ هل نحن بإزاء جماعة إسلامية دعوية أم تنظيم سياسي حزبي، وأخشى القول بأن هذا لم يعد واضحا في وعي العقل الإخواني..ومن يراجع الفترة الأخيرة في مسيرة الإخوان يقول أنها تحولت إلي حزب سياسي تتآكل مساحة الدعوة والرسالية فيه تدريجيا إلي الحدود الدنيا التي تغري خصومهم ومنتقديهم باتهامهم بتوظيف الدين لمصلحة السياسة..فالموقف الإخواني من كثير من القضايا التي تمس الضمير الديني المسلم في الفترة الأخيرة كان دائما ما يأتي ضعيفا ومتأخرا بل ربما غاب تماما على غير ما هو منتظر من جماعة إسلامية كبري كالإخوان.
فالاعتراض على واقعة تدنيس المصحف في المعتقلات الأمريكية بجوانتانامو والاحتجاج ضده بدأ في أفغانستان وبنجلاديش ودول الأطراف الإسلامية وتأخر الرد الإخواني عليها ولم يتعد حد إصدار بيان شجب وإدانة ولم يبعد كثيرا عما فعلته أي جمعية خيرية لا أقول في العالم الإسلامي بل حتى في الغرب..وفي قضية وفاء قسطنطين التي تردد أن الكنيسة أجبرتها على العودة عن إسلامها واحتجزتها- ومازالت- في أحد أديرتها لاذ الإخوان بالصمت ولم يعقبوا برأي أو حتى بيان كأن الأمر لا يعنيهم ولا يدور في مصر..لم يكن أحد يطالبهم بموقف محدد ولكن بموقف يشتبك مع القضية فيحق الحق ويبطل الباطل ويحفظ الوطن، ولكن شيئا من هذا لم يحدث!
أما في واقعة الإساءة للنبي صلي الله عليه وسلم في الصحف الدنماركية والأوربية فكان الأمر أشد وأنكي" إذ تأخر رد الفعل الإخواني وطال تأخره عن أي جماعة أو مؤسسة إسلامية في العالم ثم هو لما تمخض ولد بيانا مقتضبا لا يجاوز الثلاثة أسطر يتحدث المرشد فيه كما لو كان رئيسا لواحدة من جمعيات النفع العام؛ فيستنكر الإساءة إلى النبي الذي هو " رمز الأمة العربية والإسلامية " مؤكدا على أن الإساءة إليه "لا يقبلها أصحاب الأديان السماوية"!!..
تأدبا سأكتفي بالقول إن من يقرأ البيان سيختلط عليه الأمر كثيرا هل هو بيان للمرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين أم للشيخ سيد طنطاوي الذي أدخل لنا بدعة أن يتحدث شيوخنا باسم الأديان السماوية لا باسمهم واسمنا كمسلمين كأنما هو رئيس مجمع الأديان وليس شيخا للأزهر!! وهو الذي لم ير في الإساءة جرما إلا لكونها موجهة لرجل ميت لا يستطيع الدفاع عن نفسه! ثم جاء المرشد ليتكلم عن النبي كرمز للأمة العربية والإسلامية فلا يرى فيه إلا الرمزية التي هي مشاع يمكن أن يأخذ منه الناس حظوظهم بدءً من الجاحظ والمتنبي حتى حسن البنا وجمال عبد الناصر..فالكل رموز للأمة العربية والإسلامية!
أتصور أن هناك خللا أصاب العقل الاستراتيجي للجماعة فغُمت عليها معالم الطريق الذي تسلكه، وهو نتاج لأزمة بنيوية هيكلية تعيشها الجماعة بعدما غلبت مبدأ الحشد والتنظيم على البناء وبث الوعي في صفوف أبنائها وأبناء الأمة .
من يراجع برامج التكوين والتثقيف يلحظ بسهولة غلبة التلقين والوعظ والتقرير على حساب إثارة الوعي والروح النقدية ..فالمقررات والمناهج يضعها شيوخ الوعظ ورجالات التنظيم لا المفكرون ورجال الاستراتيجية، لذلك فهي تعج بكتابات سطحية بسيطة أو عاطفية انفعالية أو تنظيمية تعبوية تليق بتربية أجيال السمع والطاعة والحشد والتجييش.
وتكاد المقررات تفتقد لأي كتابات من شأنها بث أو تنمية الوعي الاستراتيجي حتى أنها لا تضم كتابا واحدا لمفكر مثل منير شفيق أو عبد الوهاب المسيري، ولا تستفيد من مدرسة المرحوم حامد ربيع وتلامذته في العلوم السياسية!
لذلك فقد غلب العقل السكوني الإجرائي التنفيذي على العقل التأملي التساؤلي النقدي، حتى لدى من يناط بهم بناء الصورة والوعي الإخواني..فتآكلت طبقة السياسيين في الجماعة لمصلحة رجالات العلاقات العامة الذين يضجرون من فكرة القراءة نفسها وآخر ما وصلهم من الوعي السياسي أن صارت الدبلوماسية عندهم تعني توزيع الابتسامات بالمجان وادعاء الانفتاح ولو فيما يقتضي الثبات والممانعة.
من يراجع تركيبة القسم السياسي للجماعة سيدرك عمق المأزق الذي تعيشه فتركيبته يغلب عليها الطابع التنفيذي الإجرائي التشغيلي، الذي يصلح للعمل اليومي منه إلى وضع الاستراتيجيات، وأهم نشاطاته ليست تحديد استراتيجيات الجماعة ورسم رؤيتها في القضايا الكبرى وإنما هي مواسم الانتخابات التي تمثل قمة عطاء القسم وذروة سنامه لأنها تقوم على الحشد والتنظيم وإدارة الأفراد وتوظيفهم..ولا أكثر من ذلك
لقد دفعت الجماعة باهظا ثمن نزيف العقول الاستراتيجية فيها بدءً من جماعة " المشروع" التي بدأت عام 1947 بإشراف الإمام البنا وضمت مجموعة من الشباب صاروا من أبرز المفكرين الإسلاميين مثل جمال الدين عطية ومحمود أبو السعود ومحمد فتحي عثمان وعبد الحليم أبو شقة..وغيرهم ممن أسسوا مجلة المسلم المعاصر في أوائل السبعينيات..فقد تمت تصفيتهم وتعقب آثارهم داخل الجماعة جيلا فجيل حتى لم يعد لهم أي تأثير داخلها وهم الذين صاروا ملأ السمع والبصر خارجها!
ثم امتدت حملات الملاحقة والإقصاء لكل صاحب فكر نقدي أو وعي يجاوز حدود الممسكين بالتنظيم، وكانت لكل مرحلة معركة تطيح برؤوس بعضهم أو تدفع بها إلي الصمت والجمود، فجاءت أزمة الوسط لتخلق " مكارثية " إخوانية يتعقب فيها رجال التنظيم كل عقل نقدي بشبهة الوسط التي راح ضحيتها أو على آثارها جيل كان من الممكن أن يضخ وعيا متجددا في الجماعة مثل إبراهيم البيومي غانم وهشام جعفر ومحمد مسعد وغيرهم، ثم تلتها استقالات القسم السياسي في 1997 التي راح معها أبرز العقول الاستراتيجية في الجماعة وعلى رأسها حامد عبد الماجد.
لم تحتفظ الجماعة بعقولها الاستراتيجية ولم تطور آلية تمكنها من تعظيم الاستفادة منها بعد أن انتقلت خارجها أو من مفكري الأمة الكبار لا ينتمون للتنظيم ولكنهم ينتمون للمشروع الإسلامي في مجمله. ولم تستفد الجماعة حتى من فكرة المدارس الإخوانية وثرائها التي طرحها القيادي اللبناني فتحي يكن، بل لم تستفد حتى من فتحي يكن نفسه الذي جمدته الجماعة عند حدود أوائل التسعينيات ولم تتابع معه تطوراته الأخيرة في كتبه ( المتغيرات الدولية والدور الإسلامي المطلوب ) وأطروحاته حول العمل خارج التنظيم والعمل الجبهوي ثم جمدته نهائيا ولم تعد تقبل منه صرفا ولا عدلا
!