الإخوان والسعودية: هل دقت ساعة الفراق؟
باحث مصري في شئون الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
لم ترتبط جماعة الإخوان بتحالف كذلك الذي ربطها بالمملكة العربية السعودية وربما كانت المرة الأولى في تاريخ المملكة تلك التي هاجم فيها مسئول رسمي بوزن الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية جماعة الإخوان المسلمين التي ارتبطت تاريخيًا ومنذ نشأتها بعلاقات وثيقة واستراتيجية مع المملكة كانت الأقوى بين الجماعة ودولة عربية أو إسلامية.
الهجوم الشديد للأمير نايف على الجماعة والاتهامات القاسية التي وجهها لرموزها وفكرها ودورها السياسي عربيًا وإسلاميًا، والتي نشرتها صحف ووسائل إعلام قريبة من الدوائر الرسمية السعودية ثم تناقلتها عنها الصحف ووسائل الإعلام العربية والعالمية، فتحت ملف العلاقات السعودية الإخوانية وتاريخها، وطرحت التساؤل المهم الذي كان الجميع ينتظر طرحه بعد أحداث 11 سبتمبر: هل انتهى التحالف الاستراتيجي والتاريخي بين الجماعة والمملكة؟، وهل دنت ساعة الفراق بين حليفين قارب عمر تحالفهما ثلاثة أرباع القرن وظل رهينا وشاهدا علي جملة من التحالفات والأوضاع الإقليمية بالغة الدقة في تاريخ المنطقة والعالم.
المتتبع لتاريخ العلاقة بين المملكة والإخوان يلاحظ أنها بدأت مع بداية تأسيس جماعة الإخوان نفسها؛ حيث كانت المملكة الناشئة حديثًا والصاعدة بقوة تحت قيادة مؤسسها الملك عبد العزيز آل سعود، الوجهة الأولى التي كان ينوي الإمام الشهيد حسن البنا الرحيل إليها والاستقرار بها حين كان يبحث في بداية دعوته عن بيئة أكثر ملاءمة للدعوة من مصر، وكانت المفاضلة دائما بينها وبين اليمن التي كانت خاضعة وقتها لحكم الأئمة.
ويذكر البنا تفاصيل ذلك في مذكراته "مذكرات الدعوة والداعية"، حيث يشير إلى اتصاله بالشيخ حافظ وهبه مستشار الملك عبد العزيز مؤسس المملكة، وتدخل الشيخ حافظ لدى الحكومة المصرية لنقله للعمل كمدرس في منطقة الحجاز عام 1928، وهو العام نفسه الذي أسس فيه جماعة الإخوان في الإسماعيلية.
ويذكر أيضًا أن هذه المحاولة فشلت بسبب عراقيل إدارية، كما فشلت محاولة مماثلة في توقيت مقارب من أمير الديوان الملكي في اليمن السيد/ محمد زبارة الحسن لاستقدام البنا للعمل ـ هذه المرة ـ في اليمن. كما يذكر مؤرخ الإخوان الراحل محمود عبد الحليم في الجزء الأول من كتابه "الإخوان المسلمون ـ أحداث صنعت التاريخ" تفاصيل زيارة للشيخ حسن البنا للأراضي المقدسة أدى فيها فريضة الحج، وكانت بهدف دراسة الوضع هناك وما إذا كان الأفضل نقل الدعوة إلى الأراضي الحجازية.
ورغم أن النجاح الذي أحرزه الشيخ البنا خاصة بعد أن انتقل بجماعته من الإسماعيلية إلى العاصمة القاهرة أغراه بالتراجع عن فكرة الهجرة والاستقرار في المملكة، خاصة بعد انغماسه في تفصيلات العمل الدعوي والحركة السياسية في مصر؛ فإنه ظل يحافظ على علاقات وثيقة مع المملكة التي كان يعتبرها دائمًا عونًا للجماعة، وكان يحرص على حضور موسم الحج للتعرف على وفود البلدان الإسلامية ونشر دعوته بينها وتوثيق صلاته بالنظام السعودي تدريجيًا حتى صارت المملكة الدولة الأكثر تعاطفًا ودعمًا للجماعة، وهو ما ارتبط برغبة الدولة الناشئة في تأكيد شرعيتها الدينية بتقريب الرموز والشخصيات الإسلامية، ودعم الكيانات والمؤسسات الإسلامية ومنها الإخوان المسلمون في إطار توجه وسياسة معلنة تؤكد على الدور الإسلامي للملكة.
وقد تجلت هذه العلاقة بوضوح بعد صدام الإخوان مع حكومة محمود فهمي النقراشي الذي أصدر في 8 ديسمبر 1948 قرارًا بحل الجماعة، حيث تلقى الشيخ حسن البنا دعوة للسفر إلى المملكة والاستقرار بها في أجواء كانت توحي كلها بنهاية مأساوية لمؤسس الجماعة الذي لم يمكث طويلا بعد حلها، إذ اغتالته حكومة إبراهيم عبد الهادي في 12 فبراير 1949 ثأرًا من قيام مجموعة من شباب النظام الخاص التابع للجماعة باغتيال النقراشي باشا رئيس الوزراء وصاحب قرار حل الجماعة.
على أن العلاقة توقفت عند حدود التعاطف والدعم المحدود فلم يسمح للشيخ حسن البنا بفتح فروع للجماعة في المملكة أسوة ببلاد أخرى كسوريا والأردن، رغم علاقاته الوثيقة في المملكة ويتردد في الأدبيات الإخوانية أن الملك عبد العزيز تعامل مع طلب للشيخ البنا لفتح فرع للجماعة بذكاء فلم يجبه إليه ولم يرفضه بصراحة أيضًا وقال بدبلوماسيته المعروفة: كلنا إخوان مسلمون!
وهو موقف يمكن تفهمه من نظام تأسس على تحالف مع دعوة دينية أخرى لها حضورها القوي في أنحاء المملكة (وهي دعوة آل الشيخ محمد بن عبد الوهاب) ولا مصلحة له في فتح أبواب أمام جماعة دينية منظمة ولها مشروع إسلامي مغاير ـ إلى حد ما.
على أن الشيخ حسن البنا ظل وفيًا لهذه العلاقة محافظًا عليها وهو ما ترجمته الجماعة في تنظيمها استقبالا شعبيًا كبيرًا لمؤسس المملكة الملك عبد العزيز أثناء زيارته لمصر ولقائه بالملك فاروق. حيث يذكر عباس السيسي في كتابه "في قافلة الإخوان المسلمين" أن فرق الجوالة التابعة للجماعة نظمت عرضًا عسكريًا في استقبال الملك عبد العزيز ووداعه، في ترحيب غير مسبوق ولم يتكرر مع غيره من الملوك والرؤساء.
ولا تذكر المصادر التاريخية الكثير عن تطور العلاقات الإخوانية السعودية في الفترة ما بين اغتيال مؤسس الجماعة (12-2-1949) وحتى اختيار المرشد الثاني المستشار حسن الهضيبي (19-10-1951) وإن كانت تؤكد على استمرار العلاقات الطيبة بين المملكة والجماعة التي استمرت في توظيف موسم الحج لنشر الدعوة عالميًا ومباشرة علاقاتها مع المرتبطين بها وقيادات التنظيمات الإسلامية الأخرى من أنحاء العالم. ويشير محمود عبد الحليم في كتابه "أحداث صنعت التاريخ" إلى زيارات متكررة من قيادات الإخوان لمقابلة الوفود الإسلامية في موسم الحج وعقد اجتماعات للتباحث في شأن اختيار مرشد جديد للجماعة بعد مقتل مؤسسها، ويذكر لقاء جمعه بالشيخ أبي الحسن الندوي علامة الهند الأشهر عرض عليه فيه تولي مسئولية الجماعة لكن الأخير اعتذر وفضل أن يختار الإخوان مرشدهم من بينهم ومن داخل مصر.
ثم جاءت مرحلة جديدة في تاريخ العلاقات بين المملكة والإخوان بدأت مع قيام ثورة يوليو 1952 التي سرعان ما اصطدم قادتها مع الإخوان وهو الصدام الذي وصل ذروته باتهام الجماعة في محاولة اغتيال قائد الثورة جمال عبد الناصر في حادثة المنشية الشهير (26-10-1954)، وهو ما أسفر عن حملة اعتقالات ومحاكمات واسعة طالت الآلاف من أعضاء الجماعة وأعدم فيها خمسة من كبار قادتها على رأسهم وكيل الجماعة المستشار عبد القادر عودة.
وفي هذه المرحلة صارت المملكة الملاذ الأول لقيادات الجماعة وكوادرها الهاربة من ملاحقات النظام الناصري، فقدمت المملكة كل الدعم للجماعة وفتحت أبوابها لأعضاء الجماعة الهاربين ومنحت الجنسية السعودية لعدد كبير من رموزها وقادتها من العلماء والسياسيين ورجال الأعمال، وعلى رأس هؤلاء الذين استقروا بالمملكة وصاروا من مواطنيها الشيخ مناع القطان (الذي أصبح فيما بعد الأب الروحي للإخوان في المملكة)، والشيخ عشماوي سليمان، ومصطفى العالم.. وعبد العظيم لقمة الذي بدأ نشاطًا اقتصاديًا كبيرًا في المملكة حتى صار واحدًا من كبار أثرياء الإخوان في العالم.
وكانت العلاقات الإخوانية السعودية في هذه المرحلة جزءً من الصراع الذي شهدته المنطقة وقتها بين الأنظمة الملكية المحافظة وعلى رأسها النظام السعودي وبين النظام الثوري الذي كان يقوده جمال عبد الناصر في مصر، والذي كان ينظر إليه غربيًا باعتباره يمثل تهديدًا لاستقرار المنطقة. وقد دفع هذا الصراع الذي استمر طوال الخمسينيات والستينيات بالنظام السعودي لتوثيق علاقاته مع معارضي عبد الناصر، وعلى رأسهم حليفه القديم الإخوان المسلمون، وشهدت هذه الحقبة دعم النظام السعودي للجماعة وفتح أبواب المملكة لقياداتها السياسية الهاربة من مصر وعلى رأسها القيادي البارز سعيد رمضان زوج ابنة الإمام حسن البنا الذي لعب دورًا بارزًا في تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي بدعم سعودي.
وبدأت محاولة النظام لتوظيف الإخوان كورقة ضغط على نظام عبد الناصر المهدد لاستقرار المملكة.. وتوثق التحالف الاستراتيجي بين الجماعة والمملكة، ووصل قمته في اعتراض النظام السعودي على الأحكام المشددة التي أصدرتها المحكمة العسكرية الشهيرة برئاسة الفريق الدجوي في حق قيادات تنظيم 1965 الإخواني والتي قضت بإعدام خمسة منهم على رأسهم مفكر الجماعة الشهيد سيد قطب، وجرت محاولات سعودية للتدخل من أجل وقف تنفيذ الحكم ولكنها لم تفلح وأعدم قطب واثنان من رفاقه (محمد يوسف هواش، وعبد الفتاح عبده إسماعيل) في 29-8-1966، لتزداد العلاقات المصرية السعودية ترديا في الوقت الذي يتجذر فيه تحالف المملكة مع الإخوان الذين كان ينظر إليهم كأصحاب دعوة إسلامية مضطهدين يستحقون الدعم، وكورقة ضغط على النظام الناصري في الوقت نفسه.
لم تتغير العلاقات الاستراتيجية بين المملكة والإخوان في عهد السادات الذي شهد افتتاحًا وتحسنًا كبيرًا في علاقة النظام مع الجماعة ومع المملكة أيضًا في ظل تغيرات إقليمية واسعة شهدت تحالفا بين النظامين المصري والسعودي، خاصة بعد حرب أكتوبر1973 ، للتصدي للتغلغل السوفيتي في المنطقة الذي كان ينظر إليه باعتباره خطرًا وتهديدًا لاستقرار المنطقة وأمن أنظمتها.
وشهدت هذه الحقبة تجذرًا للعلاقات الإخوانية السعودية بدأها مرشد الجماعة المستشار حسن الهضيبي بعد الإفراج عنه مباشرة عام 1971، حيث عقد أول اجتماع موسع لقيادات الإخوان منذ محنة 1954 بمكة المكرمة في موسم حج عام 1973 عقب استكمال الإفراج عنهم بغرض إعادة تشكيل مجلس شورى الجماعة وتكوين لجنة للنظر في عضوية الإخوان العاملين من أجل بناء هيكل الجماعة.
ثم بدأت حركة واسعة بين صفوف الإخوان سافر فيها عدد كبير من قياداتهم وكوادرهم للعمل في المملكة في منتصف السبعينيات التي شهدت حركة نهضة واسعة قادها الملك فيصل كان من نتائجها انفتاح المملكة واستيعابها لمئات الآلاف من العمال المهنيين والخبراء والأكاديميين المصريين.
وكان للإخوان الأولوية في الحصول على الوظائف وفرص العمل نظرًا لوجود قياداتهم السابقة المستقرة في المملكة والتي تمتعت بثقل مادي واجتماعي سمح لها بدعم فرص حصولهم على عمل، وكذلك التعاطف الذي أبداه السعوديون رسميًا وشعبيًا مع الإخوان الخارجين من محن السجون والمعتقلات، فشهدت هذه الفترة سفر عدد من أقطاب ورموز الإخوان المصريين للسعودية مثل توفيق الشاوي وكمال الهلباوي وعلى جريشة وعبد المنعم تعيلب وعبد الستار فتح الله سعيد وأحمد العسال.. إضافة إلى الشيخ محمد الغزالي والشيخ سيد سابق وآخرين من المحسوبين على الإخوان رغم انفصالهم عنها تنظيمًا.
وتمدد الوجود الإخواني في معظم الجامعات السعودية التي تأسس غالبيتها في هذه الفترة وكانت بحاجة لاستكمال هياكلها الإدارية والأكاديمية، وكذلك في عدد من المؤسسات الإسلامية الرسمية وشبه الرسمية وأهمها الندوة العالمية للشباب الإسلامي التي ما زالت محسوبة على الإخوان، وأسس عدد من الإخوان مجموعة مدارس إسلامية في أنحاء المملكة إضافة إلى دور النشر الإسلامية والمجلات والإصدارات الصحفية التي استوعبت عددًا كبيرًا من الكوادر الإخوانية.
ولم يقتصر التواجد الإخواني على المؤسسات الدينية والعلمية فقط وإنما امتد للأنشطة الاقتصادية التي استوعبت عددًا من رجال الأعمال الإخوان أو المحسوبين عليهم مثل عبد العظيم لقمة، ويوسف ندا (رغم استقراره في أوروبا)، ومصطفى مؤمن.. وغيرهم من الإخوان الذين أسسوا عددًا من الشركات العاملة في قطاع البناء والتشييد غالبًا بحكم التوسع غير المسبوق الذي شهدته المملكة في هذا القطاع والذي كان جزءً من نشاط اقتصادي وتنموي هائل ساعدت عليه الثروة البترولية الضخمة والارتفاع الهائل في أسعار النفط بعد حرب أكتوبر. كما استوعبت أنشطة المصارف والبنوك الإسلامية قطاعًا كبيرًا من الكوادر الإخوانية المختصة في مجال المحاسبة والتجارة.
ولم يكن الوجود الإخواني في المملكة قاصرًا على الإخوان المصريين فقط وإنما امتد ليشمل كوادر قيادات إخوانية من أقطار مختلفة على رأسها السودان وسوريا والعراق وفلسطين، وتنوعت قنوات العلاقات السعودية الإخوانية لتشمل الدعم الذي كانت تقدمه الهيئات الدينية السعودية الرسمية وغير الرسمية (هيئة كبار العلماء، وزارة ا لأوقاف والشئون الدينية، إدارة الوعظ والإرشاد والإفتاء... إلخ) للجماعات الإسلامية في جامعات مصر، والذي تمثل أساسًا في طبع ونشر وتوزيع كميات هائلة لعناوين مختلفة من الكتب الشرعية التي تحمل الفكر السلفي الوهابي والتي أثرت في أفكار قادة هذه الجماعات وأعضائها ونقلها عدد كبير منهم ممن انضموا لاحقًا إلى جماعة الإخوان في نهاية السبعينيات إلى فكر الإخوان الذي تأثر هذه الفترة بالفكر الوهابي السلفي أكثر من أي فترة أخرى.
وأعطي التحالف الاستراتيجي بين الجماعة والمملكة الذي ازدادت قوته في عقد السبعينيات مكانة خاصة في أدبيات الجماعة للمملكة وللأسرة السعودية لم تعطها لغيرها من الأنظمة والحكومات العربية والإسلامية، حيث لا تخلو من إشادة بدور المملكة في دعم الجماعة والصحوة الإسلامية بصفة عامة عربيًا وعالميًا، وكان ينظر إلى المملكة في الأوساط الإخوانية باعتبارها الأقرب للنموذج الإسلامي من غيرها، وإن كانت بصورة أقل بكثير عنها عما هي عليه عند جمهور الجماعات الإسلامية الأخرى خاصة المنتمية للتيار السلفي المصري الذي كان ينظر إلى الدولة السعودية باعتبارها الدولة الإسلامية في أرض الحقيقة! وكان أكثر ارتباطًا بها من الإخوان.
ومن جهتها حرصت جماعة الإخوان على الحفاظ على هذه العلاقة وتوثيقها بقدر الإمكان وتحاشت كل ما من شأنه الإضرار بها، فامتنعت عن تأسيس تنظيم إخواني لها في المملكة علي شاكلة الصورة التي أسست عليها تنظيماتها في أقطار أخرى أحدث عهدًا بدعوة الإخوان، وتفهمت قيادة الجماعة حساسية النظام السعودي من أي تنظيم ديني يمكن أن ينازعه شرعيته الدينية أو يخالف الدعوة الوهابية التي تأسست المملكة بناء على تحالف بينها وبين أسرة آل سعود، واكتفى الإخوان بتواجد غير منظم لهم داخل المملكة كان يعبر عنه عدد من الإخوان معظمهم من المتجنسين بالجنسية السعودية في مقدمتهم المرحوم الشيخ مناع القطان، إذ لم يكن هناك تنظيم للإخوان السعوديين بالمعنى التنظيمي المتعارف عليه في جماعة الإخوان، وإن سمحت الجماعة لأعضائها العاملين في المملكة بالارتباط تنظيمًا ولكن داخل تنظيمات خاصة ببلادهم الأصلية (تنظيم لإخوان سوريا، وآخر لإخوان السودان، وثالث لإخوان مصر.. وهكذا)، لضمان استمرار ارتباطهم بالجماعة، ولكنها في الوقت نفسه حظرت عليهم التدخل في الشأن السعودي أو الانفتاح على الإخوان السعوديين الذين لا يمكن النظر إليهم والتعامل معهم وفق المعايير التنظيمية المعروفة لدى الإخوان، فقد كان الإخوان السعوديون أقرب إلى طبيعة المجتمع السعودي منه إلى الإخوان، فسيطر عليهم المزاج السلفي الوهابي، وارتبطوا بعلاقات قوية مع أفراد وأركان النظام السعودي، وكانوا جزءً من بنية المجتمع السعودي القبلية، وهو ما دفعهم ـ مثلا ـ إلى الاعتراض على فكرة (البيعة) لمرشد الإخوان باعتبار أن في أعناقهم بيعة شرعية لولي الأمر (الملك السعودي)، وهي القضية التي كانت- كذلك- سببا لخلافات داخل التنظيم الدولي للإخوان بين قيادة التنظيم وإخوان الخليج بصفة عامة، وقد تفهمت الجماعة هذه الحساسية فلم تعط لقضية (البيعة) اهتمامًا كبيرًا في تعاملها مع إخوان الخليج خوفًا من انعكاساتها على علاقتها بأنظمتها الحاكمة وعلى رأسها النظام السعودي، حيث تستمد هذه الأنظمة مبرر وجودها من شرعيتها الدينية التي تمثل (البيعة) ركنًا هامًا فيها، وتحاشت قيادة الجماعة إثارة النقاش الفقهي والشرعي حول مفهوم (البيعة) لهذا السبب، ولقطع الطريق على بعض شيوخ السلفية الذين كانوا يهاجمون الإخوان ويطعنون في ولائهم لولاة الأمر مستغلين فكرة (بيعة) الإخوان لمرشدهم.
ويمكن القول إن أول شرخ في التحالف الاستراتيجي كان الموقف المتسرع لجماعة الإخوان من الثورة الإسلامية الشيعية التي اندلعت في إيران أوائل عام 1979 ؛ إذ سارعت الجماعة على نحو ما يذكر د. عبد الله النفيسي في دراسته: الإخوان المسلمون في مصر ـ التجربة والخطأ والمنشورة في كتاب: "الحركة الإسلامية ـ أوراق في النقد الذاتي"، سارعت إلى الاتصال بقادة الثورة الذين عينوا كمال خرازي (وزير الخارجية فيما بعد) ضابطًا للاتصال بالتنظيم الدولي للإخوان.
واجتمعت أمانة سر التنظيم في سويسرا بتاريخ 14 مايو من العام نفسه وأصدرت عدة قرارات أهمها: تشكيل وفد من قيادات الإخوان لزيارة إيران والتهنئة بنجاح الثورة وعزل الشاه، وإصدار كتيب عن الثورة يبرز إيجابياتها، وبناء صلات مع حركة الطلبة في إيران من خلال الاتحاد العالمي للطلبة المسلمين التابع للجماعة... إلخ.
وكان لهذا الموقف انعكاسات سلبية خاصة أن النظام السعودي كان يرى في الثورة الإيرانية تهديدًا لأمنه وأمن منطقة الخليج بأكملها بعد أن رفع قادتها شعار تصدير الثورة خارج إيران، إضافة إلى الخلاف المذهبي المستعر بين المملكة السنية السلفية، وبين الجمهورية الإسلامية الناشئة التي أصر قادتها على مذهبيتها حين نصوا في دستورها على أن مذهبها هو مذهب فرقة الشيعة الاثنا عشرية الجعفرية، وهو ما أثار حساسية النظام السعودي الذي تأسس على الدعوة الوهابية السلفية صاحبة الميراث الكبير من العداء للشيعة.
على أن أوضاعًا إقليمية ودولية جديدة أعادت العلاقات السعودية الإخوانية إلى مسارها السابق؛ فقد بدأت عملية حصار الثورة الإيرانية واندلعت الحرب العراقية الإيرانية التي اصطف فيها العالم العربي تحت القيادة المصرية والسعودية لدعم العراق الذي لاقى مساندة غربية كجزء من عملية تقليم أظافر الثورة الصاعدة، وسرعان ما عدل الإخوان موقفهم بعد تطورات الحرب العراقية الإيرانية، وشكلت نفس الرموز الإخوانية التي زارت إيران وعلى رأسها القطب السوري الشيخ سعيد حوى لجنة أخرى للتصدي للخطر الإيراني الشيعي، وهي اللجنة التي عرفت باسم (لجنة فتح إيران)، والتي كان إحدى مهامها تحويل الشعب الإيراني إلى المذهب السني!.
كما شهدت الفترة نفسها حدثًا لا يقل أهمية ساعد في توثيق عرى التحالف الإخواني السعودي، وهو الغزو السوفيتي لأفغانستان والذي أثار القلق من خطر الزحف الشيوعي على المنطقة ودفع بالأنظمة الكبرى في المنطقة وعلى رأسها النظام المصري والنظام السعودي إلى التحالف ضمن ترتيبات وتحالفات غربية أشمل وأوسع مدى للتصدي لهذا الخطر؛ فنشأ تحالف سعودي إخواني ضمن توجه عالمي لمقاومة الغزو السوفيتي لأفغانستان، وأطلقت المملكة يد الإخوان والقوى الإسلامية الأخرى وأمدتهم بما تستلزمه مهام تعبئة وحشد الشارع العربي والإسلامي للتصدي للغزو السوفيتي ومساندة الجهاد الأفغاني الذي تحملت المملكة القسم الأعظم في كلفته المادية، وذلك طوال عقد الثمانينات تقريبًا والذي استمرت فيه العلاقات السعودية الإخوانية في نفس مسارها ولم تتغير وإن لم تكن بنفس القوة والزخم الذي كانت عليه في السبعينيات حيث كان فيها الخطر الشيوعي على المنطقة في ذروته.
ولكن لم يستمر الحال طويلا إذ لم يكد ينتهي عقد الثمانينيات وقبل أن تضع الحرب الأفغانية أوزارها حتي جاء الغزو العراقي للكويت في أول أغسطس 1990 كمحطة فارقة في تاريخ العلاقات السعودية الإخوانية التي تأثرت سلبًا وإلى حد كبير بهذا الحدث، إذ بالرغم من إعلان جماعة الإخوان رسميًا رفضها للغزو ووقوفها مع الكويت ومطالبتها الجيش العراقي بالانسحاب، إلا أن هذا الموقف لم يكن بالمستوى المطلوب أو الذي كانت تنتظره المملكة وبقية دول الخليج من الجماعة، حيث رفضت الجماعة ـ في الوقت نفسه ـ مبدأ الاستعانة بالقوات الأجنبية وعلى رأسها الجيش الأمريكي ـ لتحرير الكويت، ونددت بوجود هذه القوات على الأراضي السعودية وهو ما سبب إحراجًا للنظام السعودي والأنظمة الخليجية عمومًا، بما أحدث ردة فعل عنيفة ضد الجماعة حتى من داخل بعض التنظيمات الإخوانية في الخليج وتحديدًا من إخوان الكويت الذين أعلنوا وقتها الخروج علي الجماعة الأم تغليبا علي الانتماء الوطني ورفضا لما اعتبروه تخليا من الجماعة عن قضيتهم، وزاد من توتر العلاقة إعلان بعض تنظيمات الإخوان القطرية أو التي كانت تابعة للجماعة (مثل حركة النهضة، التونسية بزعامة راشد الغنوشي، والجبهة القومية السودانية بزعامة حسن الترابي) وقوفها مع العراق، وزيارة عدد من الأقطاب والرموز الإسلامية المحسوبة على الإخوان للعاصمة العراقية بغداد ومقابلتهم للرئيس صدام حسين فيما اعتبر تأييدًا منهم لموقف العراق.
وكان موقف الجماعة من غزو العراق للكويت وحرب الخليج الثانية خروجًا على مقتضيات التحالف التاريخي والاستراتيجي بين الجماعة والمملكة؛ بل وخروجًا على تحالف دولي كانت المملكة جزءً منه، وهو ما كان إيذانًا بتفكك عرى هذا التحالف الذي شهد طوال عقد التسعينيات تراجعًا على كل المستويات يمكن رصده في اتجاهين، الاتجاه الأول يتمثل في إطلاق يد عدد من المنابر الإعلامية والمؤسسات الدينية شبه الرسمية الرافضة للفكر الإخواني والسماح لها بالتهجم على الإخوان والنيل من رموزهم وأفكارهم بل والتحريض عليهم في بعض الأحيان، وهو ما لم يكن يحدث من قبل، ورغم أنه كان يتم بعيدًا عن الجهات الرسمية ودون تدخل النظام السعودي، فإن الأمر لم يكن ليتم من دون موافقة النظام أو أطراف منه على الأقل.
أما الاتجاه الثاني فتمثل في التعارف الأمني غير المسبوق بين النظام السعودي والنظام المصري في ملف الجماعات الإسلامية بما فيها جماعة الإخوان والذي وصل حد التنسيق وتبادل الخبرات الأمنية، حتى تردد الحديث عن استعانة النظام السعودي بوزير الداخلية الراحل زكي بدر المعروف بمواقفه المتشددة من الإخوان والجماعات الإسلامية الأخرى والاستفادة من خبراته كمستشار أمني، ولا يمكن النظر إلى هذا التطور بعيدًا عن التحسن الذي طرأ على العلاقات المصرية السعودية التي كانت قد تدهورت بعد معاهدة كامب ديفيد والمقاطعة العربية لمصر.
ثم وقعت أحدث 11 سبتمبر 2001 الدامية فكانت إيذانًا بظهور وضع عالمي جديد أحد معالمه الرئيسية ملاحقة وتصفية كل الحركات الإسلامية التي رأت فيها الولايات المتحدة الأمريكية تهديدًا ـ ولو محتملا ـ لها فبدأت حربًا جديدة بلا هوادة وبطول وعرض خريطة العالم ضد هذه الحركات تحت مسمى الحرب على الإرهاب؛ ولأن فاتورة 11 سبتمبر عالية الكلفة بأكثر مما كان متخيلا، ولأن المملكة السعودية في صدارة الدول المهددة بدفع هذه الفاتورة، ولأن ميراث التحالف مع القوى والجماعات الإسلامية ومن بينها الإخوان صار ثقيلا فكان لا بد من تغير الموقف السعودي من هذه القوى والجماعات ولو أدى إلى إعادة النظر في علاقة تاريخية واستراتيجية معها كالتي نشأت وتوثقت في بين المملكة والجماعة وقارب عمرها ثلاثة أرباع القرن، وفق منطق: إذا جاءك الطوفان، إذ لا مانع من وضعها تحت القدمين!
وفي هذا السياق يمكن أن يفهم هجوم الأمير نايف بن عبد العزيز وزير داخلية المملكة على الجماعة والذي يعد الأول من نوعه الذي صدر صراحة عن أحد أقطاب الأسرة المالكة والنظام الحاكم في المملكة، إذ إنه يعكس ملامح تغير جذري سيشهده مستقبل العلاقة بين المملكة والجماعة بما يؤكد أن ساعة الفراق قد دنت بينهما.
ورغم أن الفراق لم يتأكد إلى الآن، وهو قد يكون في نظر البعض مجرد تكهنات أملا في أن تكون تصريحات الأمير السعودي لأسباب شخصية أو مؤقتة، ولكن هذا الظن يبدو مستبعدا وهو مستبعد إلى حد كبير بالنظر إلى طبيعة دوره وموقعه ضمن منظومة النظام السعودي، والذي لا يسمح بمعارك كلامية من هذا النوع، فإنه ـ الفراق ـ إذا تم فمن جانب واحد فجماعة الإخوان رغم حدة ردود بعض قياداتها على تصريحات الأمير، خاصة القيادات الأردنية، ما زالت تسعى لامتصاص هذه التصريحات والحفاظ على ـ ولو ـ الحد الأدنى من العلاقة التاريخية الأطول في تاريخ الجماعة مع نظام حاكم؛ خاصة أن الأوضاع الإقليمية والعالمية التي تعيشها لا تحتمل خسارة الجماعة للمملكة.
وفي هذا السياق جاءت تصريحات المستشار مأمون الهضيبي الذي كان قد تولى موقع المرشد قبلها بأيام قليلة، فلهجة البيان الذي أصدره المرشد الذي سبق له العمل مستشارا للأمير نايف! يوم الخميس (28 نوفمبر 2002 م) والذي كان أول بيان له في منصبه الجديد تؤكد رغبة الجماعة الأكيدة في حفظ الود مع المملكة والإبقاء عليها كحليف تاريخي، ولكن ما كل ما تتمنى الجماعة تدركه فقد أتت 11 سبتمبر بما لا تشتهي السفن.
جريدة القاهرة المصرية
ديسمبر 2002