الحشمة..أو الطريق إلي تحرير الحجاب!
صحفي وباحث مصري.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
يؤمن كاتب هذه السطور بأن اللباس الشرعي للمرأة هو الذي يستر الجسم عدا الوجه والكفين ويتحقق فيه شروط ثلاث: ألا يصف ولا يشف ولا يكون زينة في ذاته يلفت إليها الأنظار، وأن هذه المواصفات ملزمة دينيا وينبغي علي المرأة الاستجابة له أيا كان مسمي هذا اللباس وهيئته؛ ومن ثم فليس من همّ هذه المقالة الاشتباك قبولا أو رفضا مع " الحجاب " الذي صار عنوانا لهذا اللباس، كما لن تتطرق إلي الجدل النظري حول فرضيته، بل هي تسعي بالأساس إلي الاقتراب من روحه وفلسفته والتعرف علي ما طرأ عليه من تحولات خرجت به عما شرع من أجله، ومن ثم تطرح –أخيرا- مقاربة مفادها أن الحشمة قبل " الحجاب " ومقدمة إليه ومقدمة عليه أحيانا!.
يلاحظ المتابع لتاريخ الدعوة الإسلامية الحديثة أنها لم تكن تجعل من الدعوة إلي الحجاب قضية محورية؛ وأنها تكاد تكون غائبة أو متأخرة في أجندة الحركة الإسلامية في العقود الأربعة الأولي لنشأتها منذ أسس الإمام حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928. ومن يراجع التاريخ الاجتماعي لحقبة الأربعينيات التي تمثل أوج حركة الإخوان المسلمين أو يراجع أرشيف الصور الفوتوغرافية لهذه الفترة سيفاجئ بأن ملابس " الأخوات المسلمات" والناشطات في العمل مع الإخوان لم يكن يجاوز في أفضل الأحوال الإيشارب الذي يغطي الرأس والجونلة الطويلة. ولم تكن ملابس بنات ونساء الإخوان المسلمين- فضلا عن علماء الأزهر ودعاته- تختلف كثيرا عن ملابس المجتمع المصري المحافظ، بل كانت هناك بعض الأسر التقليدية في صعيد مصر وبعض المدن أكثر تشددا في أزياء النساء حتى كانت المرأة فيها ترتدي زيا تقليديا يسترها بالكامل عند خروجها من المنزل، وكان خروج المرأة وقتها نادرا.
لم تكن الدعوة الإسلامية تتكلم وقتها عن شكل أو نمط محدد للباس المرأة إلا ما كانت ترفضه من ملابس نساء النخبة والطبقات المترفة المستغربة التي كانت تقلد المستعمر وتتماهي معه فكانت مكشوفة وفاضحة تخالف الشرع لما فيها من إظهار لما حرمه الله من فتنة المرأة ولما فيه من خروج علي قيم الستر والاحتشام المستقرة عند المجتمع. ودون ذلك لم يكن هناك استقطاب حول الزي ولباس المرأة..فغالبية المجتمع كانت نساؤه محتشمات يقترب لباسهن من مواصفات الحجاب الشرعي إذا ما أردنا توصيف الحشمة والستر في قائمة مواصفات مفصلة ( وإن كان يصح في رأيي النظر إلي لباس المجتمع التقليدي باعتباره عين اللباس الشرعي!).
يؤرخ بنهاية الستينيات وعقد السبعينيات من القرن الماضي ( العشرين) كبداية لانتشار ما صار يعرف ب" الحجاب" وارتفاع الدعوة إليه علي مدي واسع في بلد كمصر. في هذه الفترة كانت البلاد تعيش موجة واسعة للعري والابتذال، الممنهج أحيانا عبر التيارات اليسارية العلمانية، وهو ما ظهر جليا في الأعمال الفنية التي كانت تمثل خرقا وتعديا علي ثقافة الستر والاحتشام التي تربي عليها المجتمع ، وفي الفترة نفسها بدأت بواكير الصحوة الإسلامية التي تغذت من رافدين أساسيين: الرافد القطبي ذي الروح الانعزالية؛ المفارق للمجتمع والداعي لإعادة أسلمته ته من جديد ( بعكس مشروع حسن البنا الداعي لاستكمال أسلمة المجتمع ) والرافد الوهابي الحجازي الذي يقوم علي سلفية شكلانية تتعامل بتشدد في مسائل اللباس وتستحضر نموذجا محددا لما تعتبره لباسا شرعيا... في هذه الفترة بدأ يظهر ما عرف ب "الحجاب" وترتفع الدعوة إليه لباسا شرعيا بل واللباس الشرعي الوحيد للمرأة المسلمة.
لقد جري تحول بالغ الأهمية مع الصحوة الإسلامية في عقد السبعينيات انتقلت معه الحركة الإسلامية في قضية لباس المرأة من خطاب يرفض العري والابتذال الذي يخرج عن قيم الستر والاحتشام التي عرفها المجتمع " المسلم " إلي خطاب آخر مختلف يسعي إلي تحديد الحجاب كلباس " شرعي" وحيد للمرأة يفترض أن تتجسد فيه كل القيم العليا التي يدعو الإسلام المرأة إلي الالتزام بها، وهو تحول جاء ضمن سعي " أيدلوجي" أوسع لبناء مجتمع بديل علي أساس من الإسلام.
لقد نشطت الحركة الإسلامية بأطيافها المختلفة في الدعوة إلي الحجاب في صورة معينة ومحددة، خلافا لما كان عليه النظر الفقهي والشرعي المستقر في أن أي لباس للمرأة مباح ( أي: شرعي) طالما كان ساترا للجسد فلا يصفه أو يحدده، ولا يشف عما تحته، ولا يكون زينة في ذاته؛ أي لا يكون لافتا يمثل خروجا علي الزي السائد والمقبول من المجتمع المسلم.
حاولت أن أتتبع تاريخيا الزمان الذي ظهر فيه الحجاب بصورته المتداولة بين الإسلاميين فرجحت أغلب الروايات أنه بدأ في منتصف السبعينيات بجامعة الإسكندرية التي كانت السلفية هي المهيمنة علي الجماعة الإسلامية فيها، وربما كان هذا سبب شيوع صفة الحجاب "الإسكندراني" علي هذا النوع من الحجاب الذي تم تعميمه فيما بعد – عبر الجماعة الإسلامية- علي بقية الجامعات المصرية ومنها خرج إلي المجتمع المصري واستقر عنوانا وحيدا علي اللباس الشرعي.
لم تعد المتبرجات السافرات الخارجات علي الحشمة المتبرجات هن وحدهن المستهدفات بالخطاب الإسلامي الجديد في قضية اللباس؛ بل صارت كل فتيات ونساء المجتمع ومنها المحتشمة التقليدية أو المحافظة مستهدفة أيضا بهذا الخطاب الحاسم والقاطع في أنه لا لباس " شرعي" يجوز لهن إلا الحجاب بالمواصفات التي صاغتها الحركة الإسلامية من تصورها لما كان عليه لباس المؤمنات في زمان السلف الصالح: الحجاب الواسع الطويل المنمط ذو اللون الواحد الذي كان غريبا عن لباس المجتمع.
لم يعد المطلوب من الفتاة أو المرأة أن تلتزم القصد في الملبس أو الاحتشام، وهو ما يمكن أن تجده في لباس أمها وجدتها المنتشر في الريف أو الصعيد أو العائلات التقليدية والمحافظة، بل صار عليها الدخول في لباس جديد لم يتأثر في شكله وطبيعته بأي من مؤثرات التاريخ والجغرافيا ولا تظهر فيه أي تعددية ثقافية أو اجتماعية...إنه لباس وليد رؤية سلفية لا تاريخية مخاصمة للثقافة والتراث ومستعصية علي فعل التاريخ..تحيل إلي نموذج متخيل لا تاريخي في اللباس..نموذج جري تعميمه باعتباره اللباس "الشرعي" الوحيد فصار يباع في الجامعات والمدارس والمساجد بأسعار رمزية لتيسير نشره وكثيرا ما يتحول إلي هدية توسلية يتوجه بها إلي الفتاة المستهدفة بالدعوة!
طوال عقدي السبعينيات جري ما أسميه بأيقنة الحجاب كشكل محدد للباس الشرعي للمرأة؛ أي تحويل الحجاب إلي أيقونة ترمز لمجموعة من القيم والأخلاق وتكاد تجسدها حصريا فضلا عن اختصاره لكل قضايا المرأة المسلمة التي تبدأ ولا تنتهي إلا به. لقد جري الربط الشرطي والآلي بين ارتداء الحجاب وبين الأخلاق بحيث صار الحجاب علامة وحيدة وحصرية علي الأخلاق التي يفترض أنها تغيب بغيابه وتحضر بحضوره..فصكت شعارات مثل: حجابك أخلاقك، حجابك عفتك، الحجاب فريضة كالصلاة، الحجاب قبل الحساب، الحجاب عفة طهارة نقاء، الحجاب عنوان حياءك.. وكان الربط الآلي والشرطي بين شكل معين للباس وبين معاني الحياء والعفة والطهارة والنقاء جزء من سمة الاختزال والتسطيح التي غلبت علي الخطاب الإسلامي الحركي ذي النفس الأيدلوجي الذي ساد حقبة السبعينيات والثمانينيات.
لقد صار الحجاب اللباس الطبيعي والحصري الذي يميز الأنثي المسلمة، وتم تعبئته بحمولة شرعية وأخلاقية كبيرة حرم منه أي لباس آخر غير الحجاب حتى ولو توفرت فيه الشروط التي استقر عليها النظر الفقهي التقليدي، كما نظر إلي الحجاب منفصلا عن الحشمة التي هي تحييد الأنثى لجسدها وأنوثتها في التعاملات والعلاقات التي يفترض أن تدور خارج ثنائية الذكر والأنثى مثل العمل والدراسة وخلافه... ومن المفهوم أن يكون الحجاب هو أكثر ما يتحقق فيه هذا الحياد لكن الواقع يقول أن هذا الحياد كثيرا ما تحقق في لباس آخر غير الحجاب كما نراه في لباس المرأة التقليدية أو المحافظة التي مازالت تتمسك بالاحتشام في الملبس والبعد عن الإثارة دون ارتباط بنظر فقهي معين.
ورغم أن هذا التحييد/ الاحتشام من المفترض أن تتوفر شروطه في المحجبات، فإن الواقع أن جزءا ليس هينا من المحجبات( كما سنري) يتصرفن كإناث يرغبن في إبقاء جمالهن ضمن المعادلة بل أكثر من ذلك يرغبن في أن تتحكم الأنثوية في علاقات لا ينبغي أن تحضر فيها الأنوثة.
إن الذي جري من جعل " الحجاب" أيقونة تجسد كل معاني الأخلاق والالتزام الديني كان سببا في غياب فهم صحيح للحجاب ومسيرته التي سرعان ما أصيبت بانتكاسة في السنوات الأخيرة سواء في معدلات انتشاره أو حتى في حمولته الدينية.
لقد حالت أيقنة الحجاب دون فهم حقيقة أن الحجاب لم يكن يصلح يوما كمؤشر حقيقي ووحيد علي قياس مدي تدين المجتمعات التي ينتشر فيها. فكثيرا ما كانت له دلالات لا صلة مباشرة لها بالتدين بقدر ما لها صلة بتحولات اجتماعية وسياسية جذرية تعيشها هذه المجتمعات دون أن يلغي ذلك حقيقة وجود دوافع دينية وراءه.
فكثيرا ما كان الحجاب عنوانا علي نزعة استقلال للفتاة أو المرأة التي دخلت عالم الحداثة لكن عبر بوابة التدين..وهو ما جري في مصر مثلا؛ حيث كثيرا ما كان الحجاب في حقيقته دليلا علي استقلالية المرأة ورغبتها في التحرر من التقاليد؛ ومنها تقاليد اللباس سواء أكان سافرا خارج علي الحشمة أو تقليديا محافظا..إن كثيرا ممن ارتدين الحجاب لم يكن دافعهن رفض السفور والتبرج فقط وهو ما يمكن أن يتحقق في اللباس التقليدي المحتشم مثلا، بل كان دافعهن الاستقلال والتحقق الذاتي أيضا..فقد أضحت الفتاة المحجبة تتمتع في المجتمع بميزات لا تتمتع بها قرينتها المحافظة المحتشمة مثل الدخول في النشاط الديني أو الحركي بما فيه معارضة السلطة بل كثيرا ما نالت بسببه امتيازات لم تكن لقرينتها المحافظة التقليدية مثل الخصوصية أو السماح بالتأخر عن البيت لضرورة العمل الدعوي أو الحركي..لقد حصلت كثيرات من الفتيات عبر الحجاب علي الثقة والاستقلالية والقدرة في مواجهة المجتمع بما أسس لهن حقوقا لم تحصل عليها الفتاة المحافظة الأكثر انصياعا لقيم المجتمع وتقاليده.
وفي حالات أخري كان الحجاب أقرب إلي تحصن بهوية مفترضة (أو اصطناع لها أحيانا) احتجاجا علي التهميش والظلم الاجتماعي الذي تتعرض المرأة كما يمكن فهم لجوء كثير من المسلمات في الغرب إلي الحجاب إعلانا علي تحدي التهميش والظلم الذي تقوم به المجتمعات الغربية للمسلمين فتعاملهم كمواطنين من الدرجة الثانية وربما الأخيرة..ومرات أخري كان الحجاب إعلانا علي الانضواء في مشروع أيدلوجي ديني جذري مثلما يمكننا فهمه في تظاهرات الحجاب أثناء الثورة الإيرانية ..وأخيرا قد يكون دلالة علي الانصياع لضغوط الفضاء الاجتماعي الذي صار فيه الحجاب عنوانا علي التدين كما سنعرض لاحقا.
إن أيقنة الحجاب كانت مسئولة أيضا وإلي حد كبير عن التحولات المأساوية التي أصابت الحجاب..فقد أدي الربط الشرطي والآلي بين التدين والحجاب إلي أن يصير الحجاب وحده هو عنوان التزام الفتاة وتدينها. لقد صار الشكل ( الحجاب ) مقدما علي المضمون ( الستر والاحتشام ) في تقييم تدين الفتاة وأخلاقها.. حيث تم تكثيف كل معاني الأخلاق والالتزام الديني ( عفة، طهارة، نقاء ) في الشكل/الحجاب..ثم جردت كل من تفتقد هذا الشكل من كل هذه المعاني الإيمانية والخلقية.
انتشر الحجاب فيما مضي بوازع ديني ( موجة تدين عام ) قوّاه ما جري هذا الربط الشرطي والآلي، لكنه صار فيما بعد ضاغطا متحكما بل ومتسلطا في الفضاء الاجتماعي بحيث أصبح عبئا شكليا لا حيلة أمامه إلا التحايل عليه والالتفاف أو التلاعب به فصرنا أمام حالة أقرب إلي حالات النفاق. لقد تحول "الحجاب" من قناعة دينية إلي سلطة اجتماعية فكان أن ابتلعه المجتمع وأعاد إنتاجه في صورة قد لا يكون له أدني صلة بأصله.
لقد أدت الرمزية التي اكتسبها شكل الحجاب إلي أن يصير متحكما في الفضاء الاجتماعي فدخلت تحته مضطرة- لاكتساب شرعية الاعتراف بالتدين والأخلاق- قطاعات واسعة من الفتيات والنساء التزمن بارتدائه شكليا دون أي التزام بمضمونه ومبتغاه..وهو ما انتهي تدريجيا إلي أن يتحول جهد هؤلاء الفتية والنسوة إلي التلاعب الحجاب والاشتغال علي تفريغه من مضمونه فظهرت أنواع من الحجاب لا صلة بينها وبين الحجاب "الشرعي" بل ولا تتصل بأي سبب بمعاني الستر والاحتشام .
بعكس الحشمة التي تركز علي مخاطبة الضمير وتسعي لضبط سلوك الأنثي ذاتيا؛ صار الحجاب يركز علي الانصياع الشكلي ويسعي إلي إرضاء الفضاء الاجتماعي الذي ترسخ فيه الربط الميكانيكي بين الحجاب وكل معاني التدين والتخلق. فصار علي الفتاة أو المرأة أن تعتمد الصيغة الشكلانية المقبولة أو المفروضة اجتماعيا ( في بعض الأحيان ) دون تعمق في روحها أو تحقق لمقصدها، بل وقد تبالغ أحيانا فترتدي أشكالا بالغة التشدد من الحجاب ( النقاب أو الحجاب المقارب للنقاب )..ثم تبدأ- بعد أن تكتسب شرعية الحجاب المجتمعية الذي يعطيها أحقية التحلل من مفهوم الحشمة- في اللعب بالأنوثة والجسد الذي ينطق بل ويصرخ من وراء الحجاب ورغما عنه، وساعتها يصبح علي المجتمع أن يخوض معركة يجرب فيها من دون جدوى كل الوسائل لضبط هذه الأنوثة التي قررت أن تتحداه وتعلن عن نفسها من وراء الحجاب/ الشكل الذي ألزمها به!
ولأنه صار أيقونة كان لابد أن يتحول إلي سلعة في سوق العرض والطلب الذي سيتضمن ألوانا من الحجاب لا تتحقق فيها أي معاني الستر والاحتشام ولا علاقة لها بالحجاب الذي بدأ وظل شرعيا حينا من الدهر..سيدخل الحجاب ضمن بيوت الأزياء التي تحوله إلي " موضة " تتجدد بلا توقف وتجعل منه موضوعا للإثارة والجاذبية والمتعة التي لا تنضب، وسيعرف طريقه إلي الطبقات المترفة التي ستدخل به في صراع الاستهلاكية فيصبح موضوعا للترف والتباهي بعدما كان- في معظمه- لباسا للفقراء والزهاد والمقتصدين في السلوك والأخلاق..سيعرف عالم الحجاب النقاب الخليجي الذي يلهب- بالعيون المكتحلة والرموش المصطنعة- خيالات المراهقين فتسافر بعيدا في الحلم بما تحت هذا النقاب، وسيدخله الإسبال الإيراني الذي يلفت الأنظار لصاحبته المتفردة قصدا بهذا اللباس في بيئة لم تعرفه من قبل فتصبح موضوعا للعيون التي تنتهبها وتجذب الأنظار أينما حلت وارتحلت علي غير قصد الشرع في لباس المسلمة..بل وسيعرف الحجاب الذي ترتديه صاحبته مع الجيبنز المحكم علي الجسد وربما الاستريتش الشفاف..بل وترتديه بعضهن مع لباس فاضح يظهر جزاء من البطن يفصل ما بين نصفيها الأعلي والأسفل.
ستكمل الدائرة الاستهلاكية الجهنمية وتظهر "المانيكان" المحجبة التي تحترف عروض أزياء المحجبات التي تدمنها نساء النخبة، وستظهر "الموديل" المحجبة التي تملأ صورها الصحف والمجلات وإعلانات الحائط تروج لأزياء مختلفة للمحجبات..بل وستظهر " الموديل " المحجبة التي تغني وترقص بالحجاب في كليبات الأغاني الشبابية..لقد تكون علي "الحجاب" سوق وتجارة وعرض وطلب بما جعله سلعة و أدخله في منطق السوق وهو منطق لابد أن يخرج به من عالم القيم ( الستر والقصد في اللباس ) إلي عالم الأشياء؛ حيث كل شيء سلعة في سوق.
أتصور أن الخطاب الإسلامي في مسألة لباس المرأة يجب أن يعود من جديد إلي عالم القيم ويقطع تماما مع عالم الأشياء، فيبعد عن الشكل ( الحجاب ) ويركز في مقاربته علي المضمون ( الستر والاحتشام ). ولا يجب أن تكون المواجهة بين الحجاب وغيره من اللباس وإنما بين قيمة الستر والحشمة وبين التهتك والتبرج والإثارة والتلاعب بالجسد وهو ما لم يمنعه الحجاب الخالي من الاحتشام.
الحشمة والستر هي روح ما قرره العلماء في مواصفات لباس المرأة؛ من أنه ينبغي ألا يصف ولا يشف ولا يكون زينة في ذاته..وفي الأخيرة تشديد علي أن جزءا من شرعية اللباس ألا يكون لافتا للأنظار مثيرا للانتباه متآلفا مع المجتمع وهو ما يتحقق في الاحتشام وقد لا يتحقق في أشكال الحجاب التي تمثل خروجا علي المألوف والمستقر من لباس المجتمع كما هو الحال في الإسدال الإيراني في بلد كمصر تنتشر فيه الطرحة التقليدية، أو النقاب الخليجي في مجتمع كالمغرب تنتشر فيه أنواع من اللباس التقليدي المحتشم كالجلابة.
الحشمة مفهوم أوسع من مجرد الشكل/الحجاب، ومظلته أشمل من مجرد المتدينين/ الإسلاميين، بل ويمكن أن تتسع لغير المسلمين أيضا؛ فرفض التهتك والإثارة واللعب بالجسد ليس خاصا بالمسلمين فقط بل يمكن أن تلتقي عليه تيارات مختلفة من أديان وثقافات شتي في العالم مازالت تبحث عن الإنسانية وترفض تحويل الإنسان إلي جسد يتحول إلي سلعة في ثقافة الاستهلاك والمتعة التي غزت العالم وكادت تخنق عالم الإنسان فيه.
إن تحول الخطاب الإسلامي إلي مقاربة الاحتشام بدلا من الحجاب سيفتح بابا لتوسعة مجال الخطاب الإسلامي ومداه بحيث يصبح أكثر انفتاحا علي القيم الإنسانية محل الاتفاق؛ فيحول اللباس الإسلامي من لباس ديني إلي لباس إنساني تلتقي عليه الإنسانية في معركتها مع الابتذال والتهتك...والله أعلم.