أزمة الإخوان .. نهاية التعايش الداخلى .. صعود التنظيم وتوجهات نحو السلفية
باحث مصري في الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
ليست مبالغة القول إن أزمة تداعيات استقالة مرشد الإخوان (أو تنازله عن مهامه لنائبه) هى أكبر أزمة تنظيمية تمر بها الجماعة على مستوى القيادة منذ أكثر من نصف قرن، وتحديدا منذ واقعة الانقسام القيادى حول شخص المرشد الثانى حسن الهضيبى إبان أزمة الجماعة مع جمال عبدالناصر وقادة ثورة يوليو (1954)، وهى الأزمة التى انتهت بإقالة أو خروج عدد كبير من قادة الجماعة معظمهم من قادة النظام الخاص وتيار الأزهرية.
وزاد من حدة الأزمة الجارية خروجها الصاخب للإعلام على أوسع مدى، وهو خروج لم يكن سببه الوحيد الإعلام «المأجور» وثيق الصلة بالأجهزة الأمنية وفق وصف الجماعة، بقدر ما ساهم فيه متغير جديد داخل الجماعة نفسها يتمثل فى اتجاه كثير من قادتها وكوادرها إلى تصريف الآراء الداخلية وتسريب المعلومات التنظيمية عبر القنوات الإعلامية التى صاروا يسعون إليها بقدر سعيها الحثيث إلى الجماعة التى صارت وجبة إعلامية مثيرة ومشهية!
ويمكن اختصار الأزمة فى كونها تتعلق بما بدا أنه فقدان الجماعة لقدرتها الفائقة بل والاستثنائية على التعايش الداخلى بين تياراتها الداخلية، واتجاه تيار متنفذ بين قيادتها إلى الحسم فيما يتعلق بصورة الجماعة ووجهتها ومسارها المستقبلى.
تعد جماعة الإخوان المسلمين كيانا خاصا ومختلفا يصعب فهمه للكثيرين ممن لم يعتادوا على هذا النمط من التنظيمات الشمولية، فهى من ناحية هيكلها التنظيمى أكبر من الحزب ولكن دون الدولة، وهى فى بنيتها الفكرية وتوجهها السياسى أقرب لجبهة أو مظلة جامعة لتيارات إسلامية مختلفة فى الفكر السياسى منها إلى تنظيم سياسى محدد المشروع والبرنامج، وبداخلها تعددية تجمع فيها تيارات من تخوم السلفية المحافظة إلى حدود الليبرالية المتدينة، وهى تيارات ظلت على اختلافها قادرة على التعايش بينها وقابلة به يجمعها جميعا القبول بالعمل التنظيمى الواحد والقبول بمبدأ التغيير السلمى التدريجى.
وبين هذا التنوع يمكننا الحديث عن تيارين يقتسمان الجماعة: الأول تيار العمل العام (المنفتح أو الإصلاحى) الذى تكون فى فضاء العمل الطلابى والنقابى والسياسى المفتوح، وهو المعروف بالتيار (الإصلاحى) الذى ظل يرسم وجه الجماعة فى الحياة العامة، وأبرز رموزه فى مكتب الإرشاد عبدالمنعم أبوالفتوح، أما التيار الثانى فهو تيار العمل التنظيمى الذى يدير البناء التنظيمى للجماعة ويمسك بمفاصلها ويتولى مسئولية التجنيد وتحديد مراتب العضوية ودرجاتها ويضع مناهج التثقيف والتكوين الداخلى، هو تيار يوصف بـ(المحافظ) وأبرز رموزه فى مكتب الإرشاد محمود عزت.
ودائما ما احتفظت قيادة الجماعة بقدرتها على الإبقاء على التيارين معا دون تصادم على الرغم من الاختلاف الكبير بينهما فى التوجه الحاكم؛ فأحدهما (تيار العمل العام) متوجه بطبعه إلى فضاء المجتمع المفتوح ومزاجه أقرب للانفتاح والتفاعل الإيجابى والمستمر مع المجتمع وتياراته المختلفة، فيما الآخر (تيار العمل التنظيمى) يتوجه دائما للداخل حيث يقيم عالمه الخاص الذى يربى فيه «الطليعة المؤمنة» يعلق عليها آمال ومسئوليات إصلاح المجتمع والأمة.
كان توسع عمل الجماعة وجمعها بين الدعوى الخيرى والسياسى، وبين التنظيمى والعام، يسمح بالتعايش بين هذين التيارين اللذين كثيرا ما نظر إليهما باعتبارهما مكملين لبعضهما البعض، وأن وجودهما وعملهما معا هو ما يعطى للجماعة قوة ويوسع من قاعدتها الجماهيرية ويعدل من صورتها بين النخب، وكانت الجماعة تبدى سعادتها من كونها قبلة الجميع يجدون فيها ما يبغون، سواء كانت سياسة وعملا عاما، أو دعوة وتربية، أو نشاطا اجتماعيا وخيريا، ولم تكن تنشغل كثيرا بمحاولة توحيد هذه المسارات فى العمل ضمن رؤية واحدة بقدر ما كانت توجه اهتمامها فقط لعدم التصادم بينها.
ظلت هذه حقيقة ماثلة وحاكمة لقيادة الجماعة، وكانت أبرز مسوغات انتخاب مهدى عاكف مرشدا للجماعة فى عام 2004، باعتباره عنوانا لرغبة الجماعة لاستمرار التعايش الداخلى والتوفيق بين تياريها الأساسيين، فالرجل وقت انتخابه (كان عمره وقتها 76 عاما) كان يقف فى منتصف الطريق بين جيلين فى مكتب الإرشاد تبدو الهوة العمرية بينهما كبيرة؛ الأول اصطلح على تسميته بالحرس القديم الذين تجاوزت أعمارهم الثمانين والثانى من جيل الوسط الخمسينى الذى بدأ العمل الإسلامى فى الجامعات فى حقبة السبعينيات.
ومثلما كان عاكف عنصر التقاء بين شريحتين عمريتين فقد كان أيضا نقطة التقاء تيارين فى الجماعة دائما ما يظهر التمايز بينهما فى القضايا الإشكالية؛ ويجمع فى سيرته الإخوانية ما يدعمه لدى التيارين. فعاكف التحق بصفوف الجماعة ولم يكمل الثانية عشرة من عمره وتربى على يد مؤسسها الإمام حسن البنا، أى إنه من «أهل السبق» بتعبير شيوخ الجماعة، كما أنه استهل ظهوره فى الجماعة بالالتحاق بالنظام الخاص فالتنظيم السرى.
ولكنه هو نفسه ــ عاكف ــ الذى حمل رصيدا غير قليل من المصداقية لدى الأجيال الأكثر شبابا وانفتاحا فى الجماعة والتى نشأت وتربت فى العمل العام المفتوح خاصة جيل الوسط؛ إذ عرف دائما بأنه أقرب أعضاء مكتب الإرشاد إلى هذا الجيل وأكثرهم قدرة على استيعابه والتفاهم مع قياداته، وكان الأب الروحى لمشروع حزب الوسط والمكلف بإدارة ملفه من قبل الجماعة قبل أن تتطور الأحداث فى اتجاه الأزمة الشهيرة التى انتهت بفصل أو استقالة معظم مؤسسى الحزب.
انتخب مهدى عاكف مرشدا تعبيرا عما سميته وقتها «توفيقية إخوانية ترضى كل الأطراف» وتدفع باستمرارية التعايش بين التيارين الرئيسيين، وقد حاول عاكف الحفاظ على هذا التوافق، لكن تطورات كثيرة مرت بالجماعة، بعضها سببه عاكف نفسه، كانت قد غيرت من إمكانية الاحتفاظ بصيغة التوافق والتعايش.
لقد شهدت فترة ولاية مهدى عاكف تسارعا كبيرا وربما غير محسوب فى حركة الجماعة بدت وتيرته أسرع وأكبر مما تحتمله طاقة التعايش بين متناقضات تحملها جماعة أكملت الثمانين من عمرها، كما لعب عاكف دورا كبيرا فى غلبة الوجه السياسى للجماعة على وجوهها الأخرى فوضع الجماعة أمام أسئلة جديدة كان عليها أن تجيب عنها بوضوح أكبر وبخطاب أكثر تحديدا وهو ما فشلت فيه على نحو ما رأينا فى برنامجها لحزب سياسى، كما أدى غلبة السياسى الذى يميل إلى التحديد وليس العمومية والبراجماتية وليس المبدئية والمرونة وليس الصرامة، إلى تعميق الفجوة بينه وبين الدعوى والتنظيمى هو ما أدى لانكشافه داخل الجماعة وجعله موضوعا للنقد والتجريح وأدى إلى تدخلات أوقفت حركته حينا وشوهت رؤيته حينا آخر، وعصفت فى كل الأحيان بميراث التعايش الداخلى.
كانت المحطة الأهم فى ضرب التعايش الداخلى بين التيارين البرنامج السياسى الذى طرحته الجماعة قبل عامين ( 2007) لحزبها السياسى المفترض وغير المنتظر، لقد كان طرح التيار الإصلاحى لرؤيته السياسية فى ظل مناخ الانسداد السياسى لحظة حاسمة سمحت للتيار التنظيمى ببدء معركته لانتزاع كل مناطق النفوذ السابقة للتيار الإصلاحى ثم نزع الشرعية عن هذا التيار ثم التدخل مباشرة بتغييرات حاسمة فى البرنامج السياسى، بإضافة المادتين الشهيرتين التى تمنعان المرأة والأقباط من الترشح وتفرضان رقابة دينية على أداء المجلس التشريعى. لقد عبثت أياد تنظيمية محافظة بالبرنامج الذى وضعه الإصلاحيون فأفقدته طابعه ووجهته وأهدافه الإصلاحية.
بدا أن معركة البرنامج السياسى مرت بهدوء ودون هزة داخلية أو أنها ضاعت فى صخب الأزمات والملاحقات التى تمر بها الجماعة ولا تكاد تنتهى، لكنها كانت فاتحة أو عنوانا لنهاية التعددية الداخلية وبدء معركة داخلية حول من يحق له أن يتحدث باسم الجماعة ومن يستحق أن ينفرد برسم صورتها، وكانت المحطة التالية الأكثر دلالة على احتدام الصراع الداخلى هى الانتخابات التكميلية لمجلس الشورى (2008) والتى حسمت كاملا لمصلحة تيار التنظيم بعد أن غير تركيبة مجلس الشورى لمصلحته وانفرد بترفيع خمسة منه لعضوية مكتب الإرشاد.
أتصور أن مهدى عاكف اختار فى الأزمة الأخيرة، وربما للمرة الوحيدة، ترك دور «رمانة» الميزان والتوقف عن دور رجل التوافقات ليلقى بثقله وراء تيار الإصلاحيين استباقا لسيطرة شبه كاملة يوشك أن يبسطها تيار التنظيم على قيادة الجماعة، وهى سيطرة تكشفت مع التغيير الكبير فى طبيعة مكتب الإرشاد التى كادت تصبح تنظيمية خالصة لا صوت فيها للإصلاحيين، وكان عاكف يسابق الزمن لوقف هذه السيطرة التنظيمية عبر ورقتين أخيرتين:
كانت الورقة الأولى محاولته الدفع بعصام العريان، لعضوية مكتب الإرشاد للتعديل ولو قليلا فى تركيبة مكتب الإرشاد الذى بات يسيطر عليه التنظيميون، بعد أن انتهى الوجود الإصلاحى فى اثنين فقط أحدهما (عبدالمنعم أبوالفتوح رمز هذا التيار) معتقل لأجل غير مسمى، والآخر (محمد على بشر) يقضى فى السجن حكما من القضاء العسكرى، ولما فشل طرح فكرة الاستعانة به نائبا له من خارج مكتب الإرشاد، وهو ما كان يتصور أن اللوائح المنظمة تسمح به، لكنه اصطدم برفض تام من جميع أعضاء المكتب.
والثانية كانت محاولته الإسهام فى اختيار خليفته على عينه وفى حضوره وقبل مغادرته منصبه، أو على الأقل منع التيار التنظيمى من بسط هيمنته على منصب المرشد بعد أن صار يطمع ليس فقط فى الانفراد باختيار صاحبه (كما كان يحدث تقليديا حتى فى حالة عاكف نفسه)، وإنما صار راغبا فى أن يكون المنصب خالصا له. وإذا ما وافقنا على أن محمود عزت، وهو رمز هذا التيار، مازال يفضل دور صانع المرشدين وليس المرشد الفعلى، فإن المؤكد أن الرجل صار يفضل مرشدا من قلب تياره وفى هذه الحالة تدور الترجيحات ما بين محمد بديع ثم جمعة أمين، ويبدو الأخير الأقرب لمنصب المرشد وهو ما تم التمهيد له بتسريبات إعلامية تؤكد حسم اختياره مرشدا.
ورغم أن النائب الأول محمد حبيب بدا فى خطابه للإعلام وتحركاته أقرب للتيار التنظيمى وأكثر انحيازا له سواء فى موافقته على رفض تصعيد عصام العريان لعضوية مكتب الإرشاد بمبررات واهية وبقراءة متعسفة للوائح الجماعة، أو فى حديثه السلبى عن المرشد مهدى عاكف وأدائه فى قيادة الجماعة خاصة فى الأزمة الأخيرة؛ فإن قراءة مدققة تقول إن حبيب هو الأقرب لعاكف والمفضل عنده خليفة له، بل لربما يذهب المراقب إلى أن ثمة توافقا وتفاهما وربما ترتيبا مسبقا بين المرشد ونائبه للدفع بالأخير كمرشح أبرز وربما وحيد لملأ المنصب الذى سيصبح شاغرا فى بداية العام المقبل 2010.
ثمة مؤشرات على هذا التوافق وربما الترتيب يتمثل فى إصرار عاكف على التنازل عن صلاحيات منصبه لنائبه حبيب وتفويضه القيام بمهامه، وفى حرص حبيب من جانبه على المسارعة إلى إعلان التفويض فى أوسع مدى يتجاوز الأطر التنظيمية، وذلك عبر رسالة اختار بعناية توجيهها عبر قناة الجزيرة وتكرارها عبر جملة حوارات ولقاءات وتصريحات إعلامية متلاحقة، لكن الأمر يبدو أكثر وضوحا فى الحرص البالغ من رموز التيار التنظيمى على عدم تمرير هذا التفويض مرة بتفسيره على أنه إجراء شكلى لا صلة له بحسم منصب المرشد الجديد، ومرة أخرى بالتشكيك فى التفويض وفى وقوعه أصلا كما يفعل سعد الكتاتنى رئيس الكتلة البرلمانية للجماعة وعضو مكتب إرشادها.
المؤكد أن أزمة الإخوان مرشحة للتصاعد فى المستقبل خاصة مع اقتراب خلو منصب المرشد رسميا مع بداية العام القادم بما يستدعى انتخاب مرشد جديد، وكذلك مع التغيير المنتظر وشبه المؤكد فى طبيعة مجلس الشورى الجديد الذى سيلتئم بداية العام بعد اكتمال الانتخابات الدائرة الآن داخل الجماعة والذى تبدو فيها مؤشرات سيطرة حاسمة لتيار التنظيم،
وهو تغيير ستكون له تداعياته الحاسمة والخطيرة على تركيبة مكتب الإرشاد الحالى لجهة تصفية أى بقايا لوجود إصلاحى من المكتب القديم، وهى تصفية الأغلب أن تطال حتى عضوية رمز التيار الإصلاحى (عبدالمنعم أبوالفتوح) بمكتب الإرشاد الذى يبدو مؤكدا أن فرص إعادة انتخابه لمكتب الإرشاد صارت محل شك فى ظل تغير طبيعة تركيبة القيادات الجديدة فى الجماعة خاصة فى مجلس الشورى!
ومما يزيد من فرص تصاعد الأزمة غياب أى قيادة تمثل مرجعية يحتكم لها فى مثل هذه الخلافات. تقليديا كان المرشد مرجعية معتبرة يلجأ إليها، لكن مهدى عاكف فقد إمكانات الاضطلاع بهذا الدور ليس فقط لكونه صار طرفا فى الخلاف وربما موضوع الخلاف ذاته، بل لأنه نجح وعلى مدى خمس سنوات بمنصبه فى إنهاء كاريزما المرشد وإسقاط الهالة التى كانت تصاحبه وتفرض احترامها بل وسحرها على الأتباع والأنصار. كما يخلو مكتب الإرشاد من شخصيات يمكن أن تقوم بهذا الدور ولو لاعتبارات تتعلق بتقدم العمر و«السبق» فى الدعوة، فغالبية أعضاء المكتب متقاربون جيليا وأقرب للأنداد، والكبار منهم لا يتوافرون على هذه الأفضلية، بعضهم بسبب مرضه وابتعاده عن الفعل والتأثير (لاشين أبوشنب ومحمد عبدالله الخطيب) والآخرون لطباع خاصة تفقدهم الرمزية التى تؤهلهم لدور المرجعية (مثل جمعة أمين المعروف بشدته وعنفه مع المخالفين).
ومثلما تغيب المرجعية التى يمكن أن يحتكم لها فى هذا الخلاف لا يوجد من يمكنه حسمه نهائيا أو السيطرة عليه ومنعه من النزول إلى قواعد الجماعة، الوحيد الذى كان مؤهلا لهذا الدور، وهو خيرت الشاطر، يقضى الآن عقوبة قاسية مفترض أن تبقى به فى السجن إلى عام 2014!
كان بإمكان خيرت الشاطر إدارة هذه الأزمة وإخراج الجماعة منها بأقل الخسائر، فالرجل كان ممسكا بكل مفاصل التنظيم وكانت تمر عبره كل موارده وإمكاناته، ومثلما كان تنظيميا عتيدا فقد كان مقبولا من الإصلاحيين بل ولربما أمكن اعتباره إصلاحيا كامنا!
تفاقم أزمة جماعة الإخوان لا يغرى بتوقع انشقاقات تضرب وحدتها التنظيمية، كما لن يتحول بالضرورة إلى هزة تنظيمية قوية تخلل تماسكها وهرميتها، فبناء الجماعة والثقافة التنظيمية السائدة تحد كثيرا إلى حد المنع من فكرة الانشقاق والخروج على الجماعة، وتكلف صاحبها غرامة تزداد فداحة بعدد السنوات التى قضاها فى التنظيم وعمق انغماسه فى مجتمعها، كما حدث فى حالة السيد عبدالستار المليجى الذى تعرض لضغوط نفسية واجتماعية ومعيشية كادت تعصف به!
كما أن وضعية المواجهة التى تخوضها مع النظام تساهم فى تماسكها التنظيمى وتعطى الأولوية للحفاظ على وحدة الجماعة واستقرارها وتجعله أولوية مطلقة، كما أن حالة الانسداد السياسى وغياب قواعد واضحة تنظم بوضوح الحق فى تأسيس الأحزاب وتكوين الجمعيات وإصدار الصحف، فضلا عن الرسالة الصريحة والمحددة باستبعاد أى إمكانية لإدماج الإسلاميين داخل النظام السياسى، كل ذلك من شأنه أن يغلق أى أفق للخروج من الجماعة والانفتاح على المجتمع والعمل فى فضائه المفتوح.
ويبدو الرفض الأخير والثالث للترخيص لحزب الوسط أقرب لرسالة إلى كل الذين يضيقون بالجماعة، تقول لهم: إن ضيق الجماعة أرحب من الوسع خارجها، وإن شدة التنظيم وعسره أهون وأفضل من إراقة ماء الوجه على عتبات الجهات الإدارية فى الدولة!
التصدع وربما الانقسام التنظيمى فى جماعة الإخوان المصرية بحاجة لسنوات، لكن ميدانه سيكون خارج مصر، حيث يشهد عدد من التنظيمات القطرية للإخوان خلافات ومؤشرات انشقاق وانقسام، لا شك أن الأزمة التى يعانيها المركز الإخوانى فى مصر بما له من شرعية تاريخية وتأسيسية سيؤدى إلى تسارع وتيرة الخلاف والانقسامات فى الأطراف، كما فى الحالة الأردنية التى توشك على انفجار يتوقع أن يشطرها قسمين، والحالة العراقية التى تعانى أصلا حمى انقسامية لا تكاد تترك حجرا على حجر، وسيجعل من التجربة الجزائرية فى الانشقاق نموذجا قابلا للتكرار فى أى تنظيم للإخوان.
لكن أزمة جماعة الإخوان فى مصر لن تمر دون آثار وتداعيات كما يتصور أو يروج قادة الجماعة فى حديثهم الرومانسى عن الجماعة التى صمدت ثمانين عاما أمام أشد العواصف والمحن!، قد لا تؤدى فعلا إلى انشقاقات أو انسحابات تنظيمية كبيرة كا أسلفنا، لكنها ستفتح الباب لانسحاب هادئ غالبا أو خروج متوتر وصارخ أحيانا لعدد من أبناء التيار الإصلاحى من الصفوف والمواقع الثانوية،
لكنه سيظل خروجا فرديا أو محدودا، وفى الأغلب سيتجه هؤلاء إلى تجميد أنفسهم وأنشطتهم التنظيمية والالتفات إلى ذواتهم والتفرغ لبناء أفكارهم ومشروعاتهم الخاصة التى لا تتصادم بالضرورة مع الجماعة، كما يتوقع أن تسود حالة من الإحباط ومن ثم الانسحاب فى الفئات الشابة الأكثر تأثرا بهذه الأزمة بحكم العمر والتأثر بالأطروحات الإصلاحية.
أما التأثير الأعمق للأزمة فسيكون باتجاه مزيد من التشدد على المستوى التنظيمى وعلى المستوى الفكرى أيضا، فالمتوقع أن يبدأ التيار التنظيمى ومسئولوه حملة تنظيمية تهدف إلى مزيد من الضبط والربط والتشدد فى معايير التصعيد والترقى داخل الجماعة لمصلحته، كما سيتجه لملاحقة «البؤر» الإصلاحية المتبقية أو حصرها فى جزر منعزلة لا تسمح لها بالتواصل والعودة مرة أخرى كتيار يخترق المستويات التنظيمية المختلفة بالجماعة.
وتبدو الجماعة مقبلة على حالة «مكارثية» جديدة تعيد إلى الأذهان ما جرى مع مشروع حزب الوسط فى 1996، لقد أدت تهمة «الوسط» إلى تعبئة تنظيمية داخلية لتعقب قيادات وكوادر تنظيمية مهمة فى كل أنحاء مصر (معظمهم من جيل الوسط)، وتم إبعاد معظمهم أو دفعهم للخروج من الجماعة!
ولن يتوقف التشدد عند المستوى التنظيمى بل الأرجح أن يمتد إلى الأفكار الإصلاحية نفسها التى يتوقع أن تشهد تراجعا وربما أفولا فى ظل بيئة غير مواتية، ليس بالضرورة أن يترجم ذلك فى تغييرات كبرة تدفع بالجماعة لمراجعة خياراتها الكبرى فى قضايا مركزية حسمتها وقطعت معها مثل التكفير والعنف، بل باتجاه مزيد من التمدد السلفى الذى تعاظم حضوره وتأثيره داخل بنية التنظيم ومناهجه التثقيفية وخطابه السياسى،
وسيترجم هذا الحضور السلفى فى مواقف الجماعة من القضايا التى يعانى موقف الجماعة فيها من هشاشة وسيولة، مثل الموقف من المرأة والأقباط وبعض القضايا الأخلاقية كتلك التى تتصل بالفنون والآداب والرقابة والنقاب والحريات الشخصية.. وهى قضايا أتوقع أن يتأثر موقف الجماعة منها بعد استقرار التحالف بين التيار التنظيمى المحافظ والتيار السلفى الصاعد.
جريدة الشروق الجديد