القرضاوي والإخوان..قراءة في جدلية الشيخ والحركة
باحث مصري في شئون الحركات الإسلامية
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
الشيخ يوسف القرضاوي هو ابن خالص لحركة الإخوان المسلمين، فلم يعرف عنه انتماء حركي أو فكري لغير جماعة الإخوان ومدرستها، كما لم يعرف له خروج صريح منها أو عنها. وقد عرف القرضاوي بحركة الإخوان ربما بالقدر الذي عرفت به، وارتبطا معا في كل مراحل العمر كأنك تقرأ تاريخها حين تقرأ مذكراته التي صدرت في ثلاثة أجزاء حتى كتابه هذه السطور؛ وكأنه يكتب عن نفسه حين يؤرخ للجماعة في كتابه: الإخوان المسلمون سبعون عاما في الدعوة والتربية. يقترب عمر القرضاوي من عمر الإخوان ( ولد في عام 1926 وتأسست الجماعة بعد ميلاده بعامين ) وتاريخه في الدعوة يكاد يتطابق مع الفترة الأبرز في تاريخ دعوة الإخوان.
كان القرضاوي واحدا من أبناء جيل من الأزهرية الذين التحقوا بالجماعة وتتلمذوا في مدرستها ونشطوا في دعوتها، جيل ضم أشهر الأسماء في عالم الفقه والدعوة من أمثال الشيوخ محمد الغزإلى وسيد سابق ومتولي الشعراوي وعبد المعز عبد الستار وعبد الستار فتح الله سعيد وعبد الرشيد صقر وأحمد العسال وعبد العظيم الديب وخالد محمد خالد و مناع القطان وأحمد الشرباصي وصلاح أبو إسماعيل وأحمد حسن الباقوري ومحمود عبد الوهاب فايد ومحمد سيد طنطاوي ومحمد المختار المهدي وعبد الله الخطيب ومحمد الرواي ومحمد البري... حتى يمكن النظر إلىه كجيل مؤسس في علاقة الأزهر بالحركة الإسلامية الأم.
ورغم أنه كان واحدا من العشرات بل وربما المئات الذين التحقوا بالجماعة من طلاب الأزهر الشريف وخريجيه إلا أن القرضاوي كان نسيج وحده في علاقة الشيخ بالحركة وفي وضعية الأزهرية في الحركة الإسلامية؛ فالآخرون ممن تشابهوا معه في تجربة الالتحاق بالحركة الإسلامية أم استوعبتهم الحركة كاملا داخلها فتماهوا فيها حتى فقدوا شخصية العالم الأزهري المستقل فلم يعد لهم وجود أو تأثير أو اجتهاد خارجها ( كما هو الحال مع الشيخ محمد عبد الله الخطيب عضو مكتب الإرشاد الذي يلقب بمفتي الجماعة وهو أقرب إلي ممثل للتنظيم لدي الأزهرية أكثر منه ممثل الأزهرية في التنظيم، ومثله أيضا الشيخ أبو الحمد ربيع عضو مكتب الإرشاد الراحل)، أو اصطدموا بها حين عبروا عن ذاتهم وأفكارهم وأحسوا بذاتهم " الأزهرية " وما تحمله أو تفرضه من استقلال العالم الأزهري ( كما جري مع الشيخ محمد الغزإلى الذي فصلته الجماعة ضمن من عرفوا بمجموعة المشايخ الأزهرية في تداعيات أزمة صدامها مع النظام الناصري عام 1954 أو الشيخ عبد الستار فتح الله سعيد الذي استقال من مكتب الإرشاد في عام 1987 بسبب ما اعتبره سيطرة السياسيين على الجماعة وعدم اعتبارهم للأزهرية )، أو أنهم تبنوا مبكرا مقاربة تقوم على ترك مسافة بينهم كعلماء أزهريين وبينها كحركة تجمع ما بين الدعوة والسياسة( مثلما فعل الشيخ محمد البري الذي صار رئيسا فيما بعد لجبهة علماء الأزهر، والشيخ محمد المختار المهدي إمام أهل السنة الرئيس العام للجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة، والشيخ محمد متولي الشعراوي – إن صحت رواية أنه كان إخوانيا- الذي ابتعد مبكرا عن الجماعة وكان يرى أنه من الأفضل للإنسان أن يبقى مع الإخوان فترة التكوين التي يأخذ فيها خير الحركة ثم لابد أن يتركها قبل أن يطوله أذاها ؛ الذي كان يعني به صراعاتها السياسية).
وحده يوسف القرضاوي كان الشيخ الذي استطاع نسج علاقة خاصة وفريدة مع جماعة الإخوان؛ هي علاقة الشيخ المتحقق والحركة التي دائما ما كانت ترتاب من كل من يحمل بداخله جينات الاستقلال في الفكر أو الحركة ..حتى شاعت فيها مقولة أن ( لا مكان في الإخوان لعسكري ولا أزهري )!
لقد امتلك الشيخ يوسف القرضاوي مواهب وقدرات أتاحت له بناء علاقة خاصة مع حركة الإخوان المسلمين، وهي علاقة نادرة قلما تتكرر بين شيخ أزهري وحركة تجمع ما بين الدعوة والسياسة. إن تفهّم هذه العلاقة الخاصة والفريدة يتطلب الإمساك بمفاتيح أساسية يمكن أن تفتح أمامنا أبواب واسعة للتعرف على مساحات مازالت مجهولة في حياة الشيخ يوسف القرضاوي آخر حبات العقد في جيل من كبار مشايخ الأزهر الشريف المجددين الذين ملئوا الدنيا وشغلوا الناس.
أول مفاتيح العلاقة نجده في : تعدد وجوه القرضاوي ومن ثم المواقع التي احتلها والأدوار التي لعبها في الحركة..فالقرضاوي يمثل نمطا فريدا بين الأزهرية يستعيد تراث العلماء الأوائل الذين يجمعون بين علوم ومعارف يندر اجتماعها في شخص واحد في هذا الزمن الذي أصبح زمن التخصص بل والتخصص الدقيق داخل الفرع الواحد من المعارف والعلوم، و يكاد القرضاوي- الذي يبدو متأثرا بنموذج الإمام أبي إدريس الشافعي- أن يكون آخر حبات عقد هذا النمط الذي انفرط .
فالقرضاوي في أحد وجوهه هو أبرز ممثلي مدرسة تيسير الفقه الإخوانية التي قامت على مهمة تقريب الفقه وتبسيطه والتي نجحت في أن تخرج الفقه من الشأن الخاص إلى الشأن العام، وهي المدرسة بدأها الشيخ سيد سابق بكتابه فقه السنة الذي وضعه بتكليف من الشيخ المؤسس حسن البنا وقدّم له بمقدمة تحتفي به وتعرف بأهميته. وإذا كان للشيخ سيد سابق فضل السبق فقد كان القرضاوي الأشهر بين فقهاء هذه المدرسة والأكثر قدرة على التجديد والاستمرارية، وقد كانت بدايته مع كتابه الشهير ( الحلال والحرام في الإسلام ) الذي أصدره عام 1959، فكان أول وأشهر كتبه التي عرفت به في العالم الإسلامي على نطاق واسع.
لا تنحصر أهمية كتاب ( الحلال والحرام ) للقرضاوي في مجرد اختياراته الفقهية التي تميل لرفع الحرج والتيسير على الناس وهو منهجه الذي التزمه طوال حياته ( التيسير في الفتوي والتبشير في الدعوة)، ولكن تتعداها إلى أهمية مقاربته التي تعتمد تقريب الفقه وإتاحته للمسلم غير المختص بالعلم الشرعي. إن القرضاوي في خذا الكتاب الذي افتتح به حياته في التإلىف يخرج الفقه من كتب الفقهاء المكتوبة بلغة تراثية متخصصة بل ومغلقة أحيانا ويصوغه بلغة معاصرة سهلة قريبة من معجم المثقف بل والمتعلم العصري بما يسمح لغير الفقهاء بالتعامل مباشرة مع مسائل وقضايا يحتاج إلىها في حياته إلىومية.
مع كتاب ( الحلال والحرام ) وما تلاه من كتابات فقهية أخرى للقرضاوي لم يعد المسلم المعاصر يجد عنتا في التعامل مع الفقه ومسائله، بل صارت كتب الفقه جزءً من مكتبة المسلم الملتزم كما هو الحال في كتاب الحلال والحرام نفسه والذي طبع ما يقارب من ثلاثين مرة وترجم إلى أكثر من عشرين لغة!
سيستمر القرضاوي في توجهه هذا خاصة بعد القبول الحسن الذي لاقاه كتابه ( الحلال والحرام في الإسلام ) وستتوإلى كتاباته التي تبسط مسائل الفقه وتقربها للقارئ غير المختص فيصدر له ( فقه الزكاه ) في مجلدين، ثم ( فتاوي معاصرة ) في ثلاث مجلدات ..ثم يخصص سلسلة كاملة لهذا الغرض سماها سلسلة تيسير الفقه أصدر منها: الصيام ، الطهارة، أصول الفقه الميسر...ليصبح القرضاوي أهم شيوخ مدرسة تيسير الفقه وتقريبه التي استفادت منها حركة الإخوان والحركة الإسلامية في عمومها في بسط مشروعها الذي اعتمد على نقل مسائل الشرع من الخاص إلى العام وتجاوز احتكار المؤسسات الدينية للمعرفة الدينية.
لم يقف دور القرضاوي الفقيه على تبسيط الفقه وتقريبه وتيسير مسائله على أهمية هذا العمل إذا ما وضع في سياقه التاريخي، بل جاوز ذلك إلى السعي لحسم كثير من المسائل الفقهية التي لم يكن يجرؤ على الاقتراب منها والكلام فيها- فضلا عن التيسير بشأنها- غيره من فقهاء الحركة من قبل. فكان من أوائل من تكلموا في قضايا مثل الحكم الشرعي للموسيقى والغناء ، فخصص جزءً وافرا من كتابه الأول ( الحلال والحرام ) لهذا الموضوع وكذلك تطرق له في ( فتاوي معاصرة ) ثم أصدر كتبا كاملة في الباب نفسه فكتب كتابا عن ( الإسلام والفن ) وثان عن ( فقه الغناء والموسيقى في ضوء الكتاب والسنة) وآخر عن ( اللهو والترويح ). لقد تبنى القرضاوي في هذه القضايا منهج التيسير والإباحة ولم يتوسع في المنع والتحريم كما كان يفعل غيره وكان في وعيه- دائما- حاجة المشروع الإسلامي إلى التيسير باعتباره مشروع أمة وليس مشروعا فرديا يمكن لصاحبه أن يتوسع في المنع إتباعا لقاعدة سد الذرائع.
كما كان من أول من تعاطى بقوة مع موضوع الحقوق الاجتماعية والسياسية للمرأة فدعم الأستاذ عبد الحليم أبو شقة في إصدار موسوعته الشهيرة ( تحرير المرأة في عصر الرسالة ) التي يمكن أن تعد أهم ما صدر في هذا الباب. وتصدى بجرأة كبيرة لمزاج التشدد والميل للتحريم في مسائل المرأة الذي سيطر على الحركة الإسلامية إبان السبعينيات، بل وذهب في بعض الأحيان إلى مخالفة شيخه ومرشده الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان مثلما فعل في إباحته لعمل المرأة سياسيا والإقرار لها بالحقوق السياسية كاملة ( المشاركة في الانتخابات تصويتا وترشيحا ) على الرغم من أن البنا كان يذهب إلى عكس ذلك. وللقرضاوي رسالة لطيفة عن ( مركز المرأة في الحياة الإسلامية ) يمكن أن تلخص رؤيته المتسامحة ومنهجه في التعاطي مع قضايا المرأة.
لقد مكنت القرضاوي جرأته كفقيه على التعاطي مع عدد من الإشكالات الفقهية التي كانت عقبة أمام تطور الحركة في بعض مراحلها؛ خاصة مسائل الفقه السياسي، فجاء القرضاوي ليفكك للحركة هذه الإشكاليات ويقدم لها المخرج اللازم مثلما فعلت فتواه بجواز نشأة الأحزاب السياسية وتعددها ( باعتبار أن الأحزاب في السياسة مذاهب في الفقه ) وبحق المرأة في ممارسة السياسة تصويتا وترشيحا.
ولم يكن القرضاوي في حركة الإخوان مجرد فقيه تلجأ إلىه في مسائل الفقه الخاصة، كما لم يتوقف دوره عند بتلبية حاجات الحركة من الفقه الميسر ( بفتح السين ) والميسر ( بكسرها )، بل كان فيها داعية مبرزا تهتز له أعواد المنابر وتتأثر لخطبه ومواعظه البليغة الفاعليات والملتقيات الإسلامية الخاص منها بأعضاء الحركة ومحازبيها أو المفتوحة لجمهور الصحوة الإسلامية وهو وجه آخر ومهم من وجوه القرضاوي التي أثرث في علاقته بالحركة الإسلامية.
ليست هناك إحصاءات موثقة كما ليس ممكنا الحديث عنها أصلا؛ لكن بالإمكان وبقدر لا بأس به من الثقة القول بأن القرضاوي كان الداعية الأكثر تأثيرا في تاريخ الحركة الإسلامية اعتمادا على كونه صاحب الباع الأكبر في هذا المجال عبر آلاف الخطب والدروس والمحاضرات التي ألقاها في الخاص والعام من عمل الحركة منذ أن عمل بقسم نشر الدعوة في بداية حياته وطوال بأكثر من ستين عاما لم يتوقف فيها عن الخطابة ودروس الوعظ حتى وهو يكتب الكتب أو يقدم برامج إذاعية ( نور وهداية ) أو برامج التلفاز الشهيرة مثل ( الشريعة والحياة ) أو ( هدي الإسلام ).
لقد بدأ القرضاوي الخطابة ودروس الوعظ ولم يتحصل بعد على الشهادة الثانوية، فخطب في مسجد قريته ولم يزل ابن السادسة عشر عاما واشتهر حتى تسمي المسجد باسمه. ثم استمر في الدعوة واعظا وخطيبا في الجامعة الأزهرية وفي صفوف الحركة الإسلامية التي كانت تستعين به في عمل قسم نشر الدعوة، وحتى حين استعانت به في قسم الاتصال في العالم الإسلامي فقد كان دوره دعويا يقوم على إعطاء دروس الوعظ والتعريف بالفكرة الإسلامية خارج القطر ( كما يحكي في مذكراته عن رحلته الأولي إلى الشام )..وفي محبسه مع الإخوان في محنتهم الثانية إبان صدامها الأول مع النظام ىالناصري عام 1954 كان القرضاوي الإمام الذي يصلي بأبناء الحركة والداعية الذي يخطب فيهم ليبثهم معاني الإيمان والصبر والثبات وكانت هذه مهمته الأولي وربما الوحيدة إذا اعتمدنا مذكراته الشخصية.
وحين هاجر إلى الخليج كان أبرز ما عرف به واشتهر كونه داعية موفقا يمتلك أسباب النجاح من قوة حافظة وسلامة لغة وحسن بيان وسعة ثقافة وقدرة على الخطابة واستثارة عواطف الجماهير، وهو ما كان سببا في توفيقه في الرحلات الدعوية التي كان يقوم بها في أنحاء العالم وما زال منذ انتقاله للإقامة في قطر.
يذكر له تاريخ الحركة الإسلامية في نشأتها الثانية في عقد السبعينيات في مصر أنه كان الداعية الأكثر تأثيرا في الجماعات الإسلامية التي نشأت في الجامعات المصرية هذه الفترة، وأنه تقاسم مع الشيخ محمد الغزالى الذي كان يسبقه سنا ولم يكن قد غادر البلاد وقت المحنة الناصرية، مهمة التأثير في القطاع الأكبر من هذه الجماعات بما أدي إلى نقلها تدريجيا تيار الإخوان المسلمين ثم تنظيمها.
كان الفرضاوي أول خطيب لصلاة العيد الجامعة التي أعادت الجماعات الإسلامية إحياء سنة إقامتها في الخلاء، فخطب أول خطبة صلاة عيد الفطر في الخلاء في ميدان عابدين عام 1976 والتي صارت من بعدها تقليدا ثابتا، كما خطب في العيد التالى في استاد الإسكندرية.
استمر القرضاوي في عمل الداعية حتى بعد أن استقر أستاذا في جامعة قطر، ولم يصرفه العمل البحثي والكتابة عن القيام بعمل الداعية من خطابة ووعظ، بل لم يتوقف عن هذا العمل حتى بعد أن بدأ يحل ضيفا على البرامج الدينية في محطات التلفاز والفضائيات. فرغم أن أكثر من أربعين مليون مسلم عبر العالم يتابعونه عبر برنامج الشريعة والحياة في فضائية الجزيرة الشهيرة مازال القرضاوي ملتزما بدور ومهام الداعية في أبسط صورها؛ فلا يتخلف عن خطبة الجمعة في مسجده الشهير بالعاصمة القطرية الدوحة ( مسجد عمر بن الخطاب ) إلا لسفر أو مرض. ولا يعتذر عنها أو عن الصلاة برواد المسجد أيا كان عددهم وإمامة التراويح بهم في رمضان ووعظهم بين الركعات ثم الدعاء بهم دعاءً طويلا في الوتر الأخير من الصلاة..لا يعترف القرضاوي بأن وسيلة من وسائل الدعوة يمكن أن تغني عن أخرى، ولا يقبل أن يتوقف عن درس دعوي يحضره عشرات أو حتى مئات الناس لحساب برنامج في قناة يشاهده الملايين.
بل لا ينفصل القرضاوي الإنسان عن الداعية حتى في عطلات الصيف وأجازات السياحة، فهو في كل بلد يزوره يحل ضيفا على الحركة الإسلامية الممتدة في أنحاء العالم العربي وفي المهاجر؛ يدعوه أبناؤها في مناشطهم وفاعلياتهم الخاص منها والعام ليقوم بينهم خطيبا وواعظا، فهو لا يفصل بين وقت السفر للاستجمام والترفيه وبين ما يراه واجب الدعوة. أذكر أننا كنّا ضيوفا في ملتقى إسلامي في المغرب، في صيف 2006، وكان القرضاوي يقضي إجازة الصيف مع أهله في مدينة طنجة، وألمّ به المرض فمنعه الأطباء من الحركة خشية تدهور حالته الصحية وإراحة له من عناء السفر والخطابة ( وكان ينتظر إتمام الثمانين أمد الله في عمره)، ولما علم بإصرار شباب الحركة الإسلامية في مدينة مكناس التي تبعد عنه بمئات الكيلو مترات واجتماعهم بالآلاف انتظارا للقائه سافر بطائرة خاصة وخطب فيهم أكثر من ساعتين متواصلتين لا يقطعها إلا التكبير وصيحات الترحيب.
والقرضاوي لدى حركة الإخوان ليس الفقيه والداعية الذي يكتفي بمد الحركة بالزاد الفقهي والدعوي فحسب؛ بل هو بالنسبة لها أيضا المربي والمؤطر التربوي وهو وجه لا يقل أهمية في وجوه القرضاوي، فهو شارك مبكرا في وضع البناء التربوي والثقافي داخل التنظيم عبر سلسلة مقالات مطولة كتبها لهذا الغرض تحت عنوان " ثقافة الداعية " كانت تنشرها مجلة الدعوة التي كانت تصدرها جماعة الإخوان في السبعينيات.( وقد صدرت مجمعة فيما بعد في كتاب يحمل العنوان نفسه) ثم وضع كتابا آخر عن ( الوقت في حياة المسلم ) كان موجها بالأساس لجمهور الدعاة، ثم وضع كتابا ثالثا بالغ الأهمية عن ( ظاهرة الغلو في التكفير ) كان له تأثير كبير في تحصين الصف الإخواني من هذه الموجة التي ضربت الحالة الإسلامية مدة عقدين. كما وضع القرضاوي تصوره في القضية التربوية للحركة في كتاب مستقل ( التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا ) يعد من أهم الكتب المعتمدة لدي الحركة في هذا الباب.
كما كان من أبرز من شاركوا في عملية التأطير والتكوين لأبناء الجماعة داخل محاضنها التربوية الخاصة مثل لقاءات الأسر والكتائب وهي لقاءات مغلقة على أطر الحركة، وقد ظل يقوم بذلك منذ عرف داخل الحركة إلى فترة تبدو قريبة حتى ما قبل انشغاله. ثم هو قضي فترة داخل الجماعة يقوم بمهام التربية والتكوين للإخوان من خارج القطر المصري أثناء عمله ضمن قسم الاتصال بالعالم الإسلامي كما يروي في مذكراته عن رحلته إلى سوريا والأردن ولبنان.
ثم هو الذي تعمد دوما متابعة الحركة في مراحل نموها بالنصح والتوجيه وسعى إلى إرشادها إلى الوجهة الصواب فكتب عدة رسائل مهمة كانت كلها تدور حول ترشيد الحركة من أهمها : الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، والصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي، والصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، والصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد، ومن أجل صحوة راشدة تجدد الدين وتنهض بالدنيا، وأولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة...إلى غيرها من مؤلفات ناصحة للحركة ولكن من داخلها؛ قد تحمل نقدا ولكنه بروح المحب الحادب علىها.
ووجوه القرضاوي في حركة الإخوان تتجاوز الشيخ أو العالم الأزهري إلى المحرض السياسي الذي يقدم الوقود الديني لقضايا الحركة السياسية ومعاركها سواء أكانت معارك خاصة بالحركة أو كانت تتصل بالقضايا العامة أو " قضايا الأمة " التي احتلت قمة أولوياته فيما بعد حين كفّ عن دخول السياسة من باب الحركة الإسلامية الخاص.
لقد شارك القرضاوي في مقتبل حياته بالخطابة السياسية تأييدا ودعما لمرشحي الإخوان في الانتخابات البرلمانية التي ترشحوا لها في أوائل الخمسينيات، وكان يتنقل بين المدن خطيبا لهم حتى وصل في جولاته إلى جنوب الصعيد محرضا الناس على تأييد مرشحي الإخوان.
وحين انتقل إلى خارج البلاد وتراجعت أعماله التنظيمية تدريجيا قام القرضاوي بهذا الدور في قضايا الأمة التي كان أبرز من تولوا الدفاع عنها وتحريض الناس من أجلها..فاحتلت قضية فلسطين مبكرا اهتمامه ، وخطب وحاضر من أجلها في كل مكان زاره ودافع عن الحقوق الفلسطينية مؤكدا على أنها أرض إسلامية من النهر إلى البحر وأنه لا حل إلا بقيام دولة إسلامية على أرضها عاصمتها القدس..وقال فيها قصائد من الشعر حفظ الناس منها مقطعا يقول فيه: فلسطين بلا قدس..كجثمان بلا رأس.
وكان من العلماء الذين وقعوا على فتوى بأن أرض فلسطين كلها وقف إسلامي لا يجوز التصرف فيه سدا للطريق على التنازلات التي كان يخشى منها مع بدء العرب مفاوضات مع الكيان الصهيوني .واستمر الرجل يولي اهتماما خاصة بالقضية الفلسطينية باعتبارها قضية الأمة المركزية ودافع عن العمليات الاستشهادية حتى وضعت الولايات المتحدة على قوائم الممنوعين من دخول أراضيها ولاحقه اللوبي الصهيوني في بريطانيا لمنعه من زيارتها. ثم هو الذي دشن من أجلها مشروعات الدعم المادي والمعنوي وعلى رأسها مشروع ائتلاف الخير.
وربما لم تتفجر فضية تهم الأمة أو الحركة الإسلامية إلا ووقف فيها القرضاوي محرضا يقدم وقود المعركة، فعل ذلك في أثناء الغزو والاحتلال السوفيتي لأفغانستان واستمر في حشد التأييد للمجاهدين حتى انسحاب السوفيت منها. وفعل ذلك في الغزو الأمريكي للعراق فكان أعلى الأصوات وأكثرها تأثيرا في رفض الحملة الأمريكية على أراضيه فأفتى بوجوب الجهاد لمقاومة الغزو الأمريكي ثم لمقاومة هذا الاحتلال، وكان من أكثر العلماء الذين أعلنوا موقفهم صراحة من اعتبار القوات الأمريكية في العراق قوات احتلال يجب على الأمة مقاومتها ويجب علىها دعم المقاومين لها. وجر موقفه هذا عليه حملات إعلامية من بعض المنابر الإعلامية التي اتهمته بدعم الإرهاب.
تكرر الأمر في أزمة الرسوم الدنماركية المسيئة للرسول صلي الله عليه وسلم فوقف القرضاوي محرضا للشارع المسلم على الغضب احتجاجا على إهانة الرسول الأعظم وقاد معركة الاحتجاج ضد الدنمارك وكان أبرز من دعوا إلى مؤتمر نصرة الرسول الذي عقد بالعاصمة البحرينية المنامة، ودشن حملة المقاطعة للشركات والمنتجات الدنماركية حتى اضطر حكومتها إلى اتخاذ خطوات لتهدئة الرأي العام المسلم. وحدث ذلك أيضا في الأزمة التي خلفتها تصريحات البابا بنديكوس بابا الفاتيكان والتي تضمنت إساءة إلى الإسلام والنبي محمد صلي الله علىه وسلم، فقد كان القرضاوي الأعلى صوتا والأكثر قدرة على حشد الشارع المسلم للاحتجاج ضد هذه التصريحات.
وفي كل قضايا الأمة ومعاركها وأزماتها كان حضور القرضاوي يتأكد يوما فيوم كزعيم ومحرض سياسي للشارع الإسلامي والمسلم في كثير من الأحيان، حتى صار تبنيه لقضية ما مقدمة أكيدة لتحويلها إلى قضية من قضايا الأمة. لقد كان القرضاوي صاحب الصرخة الشهيرة ( ادفع دولارا تنقذ مسلما ) والتي سعى من خلالها لتعبئة جهود الأمة لدعم العمل الخيري والدعوي الذي تحتاجه. على أساس من دعوته هذه تأسست الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية في الكويت والتي قامت لتحقيق هذا الهدف
أما الوجه الذي لم يغب دائما للقرضاوي وكان شريكا في كل وجوهه الأخرى وكان حاضرا في كل أدواره داخل الحركة الإسلامية فهو وجه الشاعر، فمنذ شرخ شبابه وشعر القرضاوي حاضرا بين أبناء حركة الإخوان، كتب مبكرا ولم يزل طالبا في المرحلة الثانوية مسرحيته الشهير ( عالم وطاغية ) التي يمجد فيها من مقاومة العلماء – في نموذج سعيد بن جبير- لظلم الحكام الطغاة – في نموذج الحجاج بين يوسف، فكان أبناء الحركة الإسلامية خاصة في أوساط الشباب الجامعي يؤدون هذه المسرحية في مناسباتهم وفاعلياتهم. كما اشتهرت قصيدته النونية التي كتبها في السجن الحربي يصف فيها الأهوال التي عاناها مع معتقلي الإخوان في هذا السجن المرعب، وتعد - مع قصيدة أبتاه للشاعر هاشم الرفاعي- من أهم قصائد السجون التي اشتهرت بين أبناء الحركة الإسلامية في نصف القرن الأخير.
وللقرضاوي ديوانان من الشعر( نفحات ولفحات، والمسلمون قادمون ) مثلت قصائدهما وقودا لشباب الحركة الإسلامية يبثه روح الثورة والرغبة في الانعتاق من الظلم ويلهمه معاني التضحية والفداء من أجل أمته.
أثناء حرب الإبادة التي تعرض لها المسلمون في البوسنة والهرسك كانت فاعليات التضامن التي تقيمها الحركة الإسلامية لا تبدأ أو تنتهي إلا بإنشاد قصيدته التي يقول في مطلعها:
أنا عائد أقسمت أني عائد والحق يشهد لي ونعم الشاهد
وعي القذيفة والكتاب القائد ويقودني الإيمان نعم القائد
وفي كل الفاعليات الجماهيرية التي كانت تقيمها الحركة الإسلامية كان القرضاوي حاضرا كفقيه أو كداعية وكمحرض سياسي..وإذا غاب فلم يكن يغيب شعره الحماسي الذي يلهب المشاعر ويثير العواطف ويحشد الأنصار والجماهير على قضاياها.
أما المفتاح الثاني لفهم خصوصية هذه العلاقة الفريدة بين الشيخ والحركة فهو في اتساع خريطة أفكار الشيخ القرضاوي واهتماماته ونشاطاته وتطابقها مع مثيلتها لدى الحركة حتى يكاد يمثل وحده حركة موازية لها دون تعارض معها.
لقد اتسعت خريطة اهتمامات القرضاوي وأعماله بصورة يندر أن تتكرر لدي أبناء جيله فضلا عن خلفه من شيوخ الأزهر وعلمائه حتى ممن التحقوا بالحركة الإسلامية، وكانت المفارقة أنها- عند التدقيق – تتشابه وخريطة اهتمامات حركة الإخوان ونشاطاتها حتى تكاد تتطابق معها.
لقد اشتغل القرضاوي في قضايا الدعوة والتربية، وقضايا الفقه والتفسير، وقضايا الاقتصاد والتنمية، وقضايا الثقافة والفكر، وفي العمل الخيري والإغاثي، وفي قضايا السياسة...وكان في كل حركته يتقاطع فكرا ومنهجا مع حركة الإخوان إن لم يتطابق معها..ليس هذا فحسب بل إن كتاباته تأتي دائما إما لتقدم الأساس الفكري والشرعي لعمل الحركة أو لتفكك قضايا الالتباس ومساحات التوتر التي تعوق حركتها.
إبان الحقبة الناصرية في الستينيات وحين كانت الحركة تواجه تحديا على مستوى مشروعها الإسلامي الذي صار موضوعا للنقد والتحدي من قبل أنصار المشروع الاشتراكي كان اهتمام القرضاوي بالدفاع عن هذا المشروع وحمايته من موجة النقد التي كادت تعصف به فكتب وقتها سلسلته الشهيرة عن حتمية الحل الإسلامي ( الحل الإسلامي فريضة وضرورة، الحلول المستوردة وماذا جنت على أمتنا، بينات الحل الإسلامي، أعداء الحل الإسلامي..).
وفي إبان انبعاث الصحوة الإسلامية في السبعينيات انصب جهد القرضاوي على قضية ترشيد الصحوة الوليدة فكتب سلسلة رسائل وكتب مهمة في هذا الموضوع ( ظاهرة الغلو في التكفير، أين الخلل؟، فقه الأولويات، الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف، والصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي، والصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم، والصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد، ومن أجل صحوة راشدة تجدد الدين وتنهض بالدنيا، وأولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة.
ثم لما تعددت تيارات الصحوة والجماعات العاملة لها بما فتح باب التنافس بينها والتصادم في بعض الأحيان حاول القرضاوي وضع أسس للتعاون بين جماعات الدعوة والعاملين في حقلها، فكتب عن: شمول الإسلام، والمرجعية العليا في الإسلام للقرآن والسنة، وموقف الإسلام من الإلهام والكشف والرؤي ومن التمائم والكهانة والرقى، والسياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها، وكيف نتعامل مع التراث والاختلاف والتمذهب... وكانت كتاباته في هذا الموضوع- في مجملها- شرحا وتطويرا للأصول العشرين التي وضعها الإمام حسن البنا كأصول للمشروع الإسلامي الحركي الأول ( الإخوان المسلمين )، ولكن بصياغة جديدة وأكثر مناسبة للتعددية التي صارت إلىها الصحوة الإسلامية.
ثم لما صارت الحركة الإسلامية في تحدي سؤال الدولة؛ سواء نظريا أو واقعيا كما جرى في بعض البلدان التي تولت فيها الحركة السلطة اتجه القرضاوي إلى بيان شكل الدولة " الإسلامية " التي يتصورها، وسعى للإجابة على إشكالات هذه المرحلة فكتب : ملامح المجتمع الإسلامي الذي ننشده، وشريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، الأقليات الدينية والحل الإسلامي، جريمة الردة وعقوبة المرتد في ضوء القرآن والسنة.
ولما انفتحت الحركة على سؤال العولمة والانفتاح على الآخر كان له سبق الاشتباك مع أسئلة اللحظة، فكتب: المسلمون والعولمة، خطابنا الديني في هصر العولمة، الإسلام والمسلمون وعلوم المستقبل على أعتاب القرن القادم، المسلمون والتخلف العلمي، ورعاية البيئة في شريعة الإسلام، وحقوق المسنين من منظور إسلامي، الغرب والإسلام ، وربما افتقدت بعض كتاباته في هذه في قضايا مثل العولمة وحوار الأديان والحضارات الإحاطة اللازمة بموضوعاتها نظرا لطبيعتها الفكرية المعقدة والسن الذي بلغه الشيخ ( كتب في ذلك بعد السبعين ) إلا أنه كان رائدا في توجيه الحركة والاتجاهات الإسلامية إلى أهمية الاشتباك مع مثل هذه القضايا.
وقد عدد القرضاوي من وسائل وآليات عمله التي جمعت ما بين التقليد والحداثة؛ من الخطبة والدرس الوعظي والمحاضرة العلمية ..إلى برامج الإذاعة والتلفاز والفضائيات وموقع الإنترنت. كما قارب ما بين الخاص والعام في حركته؛ من دروس تكوينية داخل الأطر التنظيمية بمستوياتها المختلفة إلى الوسائل المفتوحة التي تناسب العام من خارج التنظيم، وهو دائما رجل التنظيم بكل مستوياته ورجل العام بكل شرائحه وطبقاته
كما نوّع الشيخ القرضاوي في بناء مشروعه بين الجهد الفردي وبناء المؤسسات؛ حتى بدا أقرب إلى مؤسسة متكاملة. فقد نجح القرضاوي في بناء شبكة عالمية تتصل بكل أنشطته واهتماماته وتغطيها حتى يكاد لا يستثني مؤسسة من مؤسسات العمل الإسلامي بتخصصاته المختلفة في أنحاء العالم تقريبا منها إلا كان له بها صلة وثيقة؛ فهو عضو إن لم يكن مؤسسا لأهم مؤسسات العمل الإسلامي العالمية؛ نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: مجلس إدارة مركز بحوث إسهامات المسلمين في الحضارة في قطر.، مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجده.المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية( مؤسسة آل البيت) بالأردن، مجلس الأمناء للجامعة الإسلامية بإسلام آباد، مجلس الأمناء لمركز الدراسات الإسلامية في اكسفورد، رابطة الأدب الإسلامي، جمعية الاقتصاد الإسلامي بالقاهرة، الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية بالكويت، مجلس الأمناء لمنظمة الدعوة الإسلامية في أفريقيا ومركزها الخرطوم، الهيئة الشرعية العالمية للزكاة بالكويت، مجلس إدارة صندوق قطر الإسلامي للزكاة والصدقة، مجلس أمناء الوقف الإسلامي لمجلة المسلم المعاصر، المجلس العلمي للكلية الأوربية للدراسات الإسلامية في فرنسا.هيئة الرقابة الشرعية لشركة الراجحي للاستثمار بالسعودية.هيئة الرقابة الشرعية لمصرف قطر الإسلامي وبنك قطر الإسلامي الدولي ومصرف فيصل الإسلامي بالبحرين وباكستان وبنك التقوى بسويسرا، المؤسسة الإعلامية الإسلامية العالمية بإسلام آباد، مجلس إدارة جمعية البلاغ الثقافية لخدمة الإسلام على الإنترنت، المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث.وائتلاف الخير....ثم الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي أسسه القرضاوي كأهم تجمع لعلماء المسلمين في العالم.
امتلك القرضاوي المفاتيح السابقة ولكنه لم ينفرد بها بل ربما شاركه فيها آخرون بقدر يزيد وينقص، أما المفتاح الذي انفرد به فهو القدرة على صياغة علاقة فريدة مع التنظيم تتجاوزه دون أن تصطدم به. وقد نجح القرضاوي في ذلك بسبب توفره على جملة صفات خاصة وبسبب استراتيجيته التي اتبعها في علاقته مع تنظيم الإخوان.
لقد حسم القرضاوي أمره مبكرا وطوال علاقته بالحركة بالانتماء للخط العام في الحركة والولاء لقيادتها الشرعية المجمع عليها دون الارتباط في مشروعات جانبية يمكن النظر إليها باعتبارها تمثل " جيوبا " تنظيمية أو تيارات مخالفة للجماعة، التزم القرضاوي بهذا الانتماء مهما كان تقديره لكفاءة هذه القيادة مادامت شرعية ومجمعا عليها، ولم يتورط في مشروعات جانبية مهما كان اتفاقه مع أفكارها وتقديره لها.
لقد التزم القرضاوي هذا حين وقعت الأزمة الشهيرة عام 1954 واختلفت الجماعة حول شخص المرشد الثاني المستشار حسن الهضيبي، فرغم أن القرضاوي كان أقرب إلى منطق وجبهة من عرفوا بتيار المشايخ و الأزهرية المعارض للهضيبي وسياساته ( يمثله الشيوخ محمد الغزإلى وسيد سابق وعبد المعز عبد الستار..) فلم يصل الأمر بالقرضاوي إلى الانضمام إلى هذه الجبهة حين انشقت على الجماعة أو احتجت على قرار فصلها. بل التزم القرضاوي ما انتهت إلىه القيادة الممسكة بدفة التنظيم، وعاش معها فترة السجن والتزم بأوامرها وتكليفاتها دون أن يعلن خلافه معها أو رفضه لقيادتها رغم وقع السجن وهول التعذيب وسعي جمال عبد الناصر ونظامه لضرب وحدة الإخوان التنظيمية.
تكرر الأمر كذلك مع حزب الوسط الذي يمكن النظر إلىه كأكبر انشقاق تنظيمي عرفته الجماعة منذ أزمة المرشد الثاني، فرغم أن القرضاوي كان متعاطفا مع هذا المشروع وقريبا من أبناء الجيل الذي قاد التجربة – جيل الوسط؛ ورغم أن أصحاب المشروع الحزب أكدوا في ورقته المذهبية تأثرهم باجتهاداته وآرائه في الفقه السياسي ( جواز التعددية الحزبية، وفكرة الإسلام الحضاري) إلا أن القرضاوي لم يدخل طرفا في هذا المشروع خاصة بعدما انتقل من محاولة تجديدة إلى خصومة تنظيمية مع جماعة الإخوان والقيادة الشرعية لتنظيمها الشرعي. واكتفى بموقع الناصح للجماعة الناقد لسياستها في هذا الملف والداعم فكريا ومعنويا من طريق غير مباشر لهؤلاء الشباب من جيل الوسط ..واستمر القرضاوي يلقي سنويا وفي كل إجازة صيف محاضرة في المنتدي الذي يعقده حزب الوسط بمقر المركز الدولي للدراسات في الوقت الذي يحل ضيفا على الفاعليات التي تقيمها الجماعة في بعض النقابات المهنية أو نوادي أعضاء هيئة التدريس.
مثلما حسم القرضاوي انتماءه وولاءه للخط العام الحركي للإخوان فقد وضح حسم انتمائه أيضا للتيار العام الفكري الوسطي للحركة والذي أسسه مؤسس الجماعة، وهو التيار الذي يعرف بالتيار البناوي ( نسبة للشيخ حسن البنا ). ولم يعرف عن القرضاوي ارتباطه بأي اتجاهات فكرية أخرى فرعية تخرج به عن هذا التيار، بل لقد خاض مبكرا مواجهات " فكرية " ضد هذه التيارات خاصة المتشدد منها وكان من أبرز من تصدّوا لها خاصة المتشدد منها.
حدث ذلك مبكرا حين اختلف القرضاوي مع شيخه وأستاذه البهي الخولي مسئول الدعوة في المكتب الإداري للإخوان في مديرية الغربية التي كان يتبع لها، فقد جمع الخولي عددا من أبناء الإخوان النابهين وكوّن منهم ما أسماه بـ ( كتيبة الذبيح ) بغرض تربيتهم تربية روحية خاصة على المنهج الصوفي الذي يرى أن من لا شيخ له فالشيطان شيخه ويبالغ في طاعة المريد لشيخه، وقد دعا الخولي تلميذه القرضاوي مع عدد من أقرانه النابهين ( منهم أحمد العسال وعبد العظيم الديب من الأزهر )، فرفض القرضاوي الشاب دعوة أستاذه بسبب ما رآه من تربية تخالف المنهج البناوي حيث تقوم على السمع والطاعة المطلقة وتستحضر الطرقية الصوفية التي تنعدم فيها شخصية المريد لتذوب في إرادة شيخه. وكان هذا وعيا مبكرا من القرضاوي- ولم يزل شابا في المرحلة الثانوية- بالتيار الفكري والتربوي الذي ينتمي إليه ويتمثله بحيث يمكن أن يدافع عنه أمام من كان وقتها يقف منه موقف التلميذ.
تكرر ذلك في خروج آخر ولكنه أكبر وأشد تأثيرا على التيار البناوي في الجماعة، وهو التيار القطبي ( نسبة إلى الشهيد سيد قطب ). لقد تأثرت جماعة الإخوان بدء من النصف الثاني من عقد الستينيات بأطروحات سيد قطب التي كانت تحمل في داخلها انقلابا على أفكار المؤسس حسن البنا، كانت الأطروحات القطبية أكثر تشددا وانكفاءً على الذات، وأكثر ميلا للمفاصلة مع المجتمع والتصدي لما تراه خروجا على المنهج الإسلامي ، ومن ثم أكثر استعداد للتصادم مع هذا المجتمع.
ربما وباستثناء رسالة ( دعاة لا قضاة ) التي تنسب للمرشد الثاني القاضي حسن الهضيبي لم تقدم الجماعة نقدا جديا مؤسسيا لأفكار سيد قطب، بل كان الغالب أنها استحضرت أفكاره وكتاباته في بنيتها الفكرية والتربوية في مراحل مختلفة، خاصة بعد إعدامه وتحوله رمزا للحركة الإسلامية في كل أنحاء العالم وأكاد أجزم بأن الشيخ القرضاوي كان من أوائل من تجرؤا على نقد سيد قطب وسعوا إلى استعادة الإخوان للمنهج البناوي.
في الثمانينيات من القرن الفائت وأثناء علو الخطاب القطبي وسطوته كتب القرضاوي مقالة في جريدة الشعب المصرية القريبة من الحركة الإسلامية في كانت الأولى في نقد بعض أفكار سيد قطب. ثم خصص فيما بعد مساحات كبيرة في الجزء الثالث من مذكراته لاستكمال هذا النقد بما أثار عليه ثائرة عدد كبير من الكتاب والقيادات الحركية الإسلامية حتى من داخل جماعة الإخوان نفسها.. فكانت واحدة من المعارك الفكرية الإسلامية المهمة في الأعوام الأخيرة.
ومثلما جسد القرضاوي للحركة خط الدفاع عن تيارها العام في مواجهة أفكار وافدة تمددت في فراغ غياب المؤسس مثلما حدث مع سيد قطب، فقد جسد القدرة على تمثيل الخط العام للحركة فكريا وفقهيا ولكن من دون الجمود عليه بل مع إعطائه طاقة تجديدية، فرغم أنه صار يمثل امتدادا فقهيا وفكريا وتربويا للإمام المؤسس للبنا إلا أنه لم يكن امتداد المقلد المتبع بل المجدد القادر على مخالفة إمامه ولكن خلاف التلميذ مع شيخه وليس خروجا عليه تماما كما فعل في رفضه لما ذهب إليه البنا من منع المرأة من حقوقها السياسية، أو رفضه لموقف البنا الرافض للأحزاب والحزبية، أو خلافه مع ما ذهب إلىه البنا من إمكان تلبس الجن بجسد الإنسان. والقرضاوي يسوق اجتهاداته في هذا الصدد في سياق المجتهد الذي يكمل على خطى شيخه ولكنه يخالفه في بعض اجتهاداته دون أن يمنعه ذلك من الإقرار له بالفضل والتقدمة.
أما أكثر ما تميز القرضاوي به في سياق صياغته لعلاقته مع الإخوان فهو قدرته المذهلة على تحديد موقعه المناسب له في الحركة وتطوير هذا الموقع وفق تطوره الشخصي وبحيث يتناسب مشروعه الخاص مع مشروع الحركة العام.
مبكرا حدد القرضاوي موقعه في الحركة واختار أن يكون عمله فيما يتصل بتخصصه ومجال اهتمامه ونبوغه، فعمل في قسم نشر الدعوة الذي يتناسب واهتماماته وملكاته الذاتية، وحين التحق بقسم الاتصال بالعالم الإسلامي ظل عمله داخل القسم منصبا على نشر الدعوة خارج القطر المصري ولم يكن عملا تنظيميا. بل إن القرضاوي لم يتردد دائما ومبكرا في رفض العمل التنظيمي إلا ما يتصل منه بمشروعه الدعوي الشرعي لذلك فلم يرحب بتولي المهام التنظيمية وكان أول موقع تنظيمي قبله هو مسئولية الإشراف على الأزهر الشريف.
ثم للرجل قدرة تثير الإعجاب على أن يحدد وبدقة متى يبدأ التنظيم والعمل التنظيمي ومتى ينتهي في حياته وأين يلتقي معه وأين يبتعد عنه، وهو قادر على استشعار التغيرات التي تطرأ أو التي يجب أن تتم على علاقته بالتنظيم حضورا وغيابا قربا وبعدا.
لذا لم يتردد الرجل الذي بدأ حياته في جماعة الإخوان واعتقل بسببها مرتين أن يرفض منصب المرشد العام مرتين إحداها وهو في مقتبل حياته الدعوية وقبل أن يسطع نجمه. لقد رفض القرضاوي- حتى قبل أن يملأ الدنيا ويشغل الناس- منصب المرشد حين عرض عليه عام 1976 الذي كان قد خلا بعد وفاة المرشد الثاني القاضي حسن الهضيبي وبقت الجماعة مدة عامين من دون مرشد..لقد أدرك القرضاوي مبكرا أن موقعه الصحيح لخدمة دعوته وفكرته ليس في العمل التنظيمي بالجماعة حتى وإن في قمة هرمه؛منصب المرشد فكتب رسالته إلى الدكتور محمود أبي السعود عضو الهيئة التأسيسية الذي تولى عرض المنصب عليه قائلا:
( إني أعتقد أن من مصلحة الدعوة التي أنتمي إليها، ومصلحة الإسلام عامة، الذي نذرت نفسي لخدمته: أن أظل مشتغلا بالعلم وبالبحث، لإتمام ما عندي من مشروعات علمية أراها مهمة ونافعة إن شاء الله.
وقد أتيح لي الآن - من خلال موقعي ومعرفة الناس بي - أن أتصل بالجمعيات العلمية في مؤتمرات عربية وإسلامية وعالمية شتى. ومن الخير أن يستمر هذا الاتصال بعد أن فرضت على العزلة مدة طويلة في مكان قصي منعزل.
إن جماعتنا لم تخل - ولن تخلو إن شاء الله - من الكفايات القادرة على قيادة السفينة بقوة وأمانة، ولن تعدموا (القوي الأمين) أو (الحفيظ العليم) في صفوف الحركة، بعون الله )
ثم عاد وجدد الرفض مرة ثانية عام بعد وفاة المرشد الخامس مصطفى مشهور حين عرض عليه المأمون الهضيبي التنازل عن المنصب له إذا ما قبل قيادة الجماعة، واعتبر القرضاوي وقتها أنه قد صار ملكا للأمة كلها بما يمنعه من أن يحصر نفسه في جماعة أو تنظيم ولو كان بحجم وانتشار وتأثير الإخوان المسلمين...ولم يكن القرضاوي يقارب الأمر من منطق برجماتي بقدر ما كان يقدر بدقة موقعه المفترض من الجماعة ويستشعر التغيرات التي تطرأ عليه وتلزمه.
وقد استطاع القرضاوي الانتقال في علاقته بالتنظيم من موقع التبعية أو الانضباط التنظيمي إلى لعب دور الإلكترون الحر الذي ينتمي إلى الحركة ولكن دون أن يقع أسير منطقها التنظيمي، لذا فقد ظل الجميع يعرفون القرضاوي كواحد من جماعة الإخوان دون أن يسألوا عن موقعه التنظيمي أو وضعيته قبولا ورفضا من قيادة التنظيم..ومع الزمن صار مثل هذا التساؤل يقابل بسخرية إما لأن الإجابة عنه تبدو بدهية أو لأنه صعبة..لذلك تحول القرضاوي إلى مرشد لأبناء الجماعة وجمهورها دون سؤال منهم عن موقعه التنظيمي داخلها.
كما امتلك القرضاوي كذلك القدرة على تجاوز الإطار التنظيمي وعقباته ولكن دون الوقوع في مأزق الاضطرار للخروج عليه ومن ثم الاصطدام به، فهو استطاع انجاز انتقال هادئ من المركز إلى التخوم ومن التخوم إلى خارج التنظيم بتدرج ودون صدام، لذلك لم يعرف عنه خروج تنظيمي رغم أنه حدث، ولم يتطرق جمهور الإخوان إلى السؤال عن علاقته بالتنظيم رغم أنه خارج التنظيم فعلا، بل وربما اكتشف الإخوان- فيما بعد- أنه من الأفضل عدم إثارة هذا السؤال الذي يسيء لمن يطرحه ولن يترتب عليه أي فعل أو موقف من الرجل إيجابا ولا سلبا.
لقد أدى امتلاك القرضاوي لهذه القدرة في صياغة علاقة خاصة مع التنظيم إلى تجاوزه الإطار الإخواني تنظيما وحركة إلى مواقع أخرى لم تكن مفتوحة فيما قبل أمام المدرسة الإخوانية مثلما هو الحال مع تيار السلفية الإصلاحية، فصار القرضاوي مقبولا بل وأحيانا مرجعا معتمدا لدى تيار السلفية الإصلاحية في السعودية ودول الخليج، وصارت بينه وبين رموزها صلات قوية كما هو الحال مع الشيخ سلمان بن فهد العودة وسفر الحوإلى وعائض القرني...ربما لم يحدث هذا مع شيخ " إخواني " غير القرضاوي، وهو عكس ما جرى - مثلا- مع الشيخ محمد الغزإلى رغم وحدة الفكر التي تجمعهما حتى التطابق. ولم يكن مرد الأمر إلى حدة الغزالى وقسوته في نقد السلفية بما جر عليه خصومات وأشعل بينه وبينها المعارك، بل لقدرة خاصة لدى القرضاوي في إدارة العلاقة مع الفاعلين الإسلاميين بما يجعله قادرا ليس فقط على تجاوز الانتماء التنظيمي وما قد يترتب عليه من إشكالات بل وتجاوز الانتماء الفكري والمذهبي بما يسمح له بتجاوز مظلته التنظيمية والحركية لمخاطبة آخرين من خارجها.
مجلة" الكتب وجهات نظر"
عدد يوليو 2008